top of page
بحث

التسليم على المشركين

حكم رد السلام على أهل الكتاب الصابئين بقول "وعليكم السلام ورحمة الله" في دار الكفر: تجدد الاجتهاد وفق فقه الواقع

السؤال:

هناك شبهة تقول: لماذا تردون على أهل الكتاب والصابئين بقولكم "وعليكم السلام ورحمة الله"، مع أن النبي ﷺ قال: "فقولوا: وعليكم"؟ وهل يجوز رد السلام كاملاً بقول "وعليكم السلام ورحمة الله" وفقًا للواقع الذي نعيشه اليوم؟

الإجابة:

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على رسوله وعلى آله الطيبين ورضي الله عن أصحابه أجمعين، أما بعد:

أولًا: الاجتهاد في الأحكام يتجدد بحسب الواقع

من المعلوم أن الاجتهاد في الأحكام الشرعية مطلوب والحكم الشرعي ليس ثابتًا في كل جزئياته، لانه ينبني على الدليل الشرعي الثابت وعلى الواقع المتغير فيتغير وفقًا للزمان والمكان والأحوال، وهذا محل اتفاق عند العلماء، لذلك ينبغي النظر في مسألة رد السلام على أهل الكتاب والصابئين وفقًا لما يتلائم مع هذا الواقع وليس واقع المدينة المنورة بعد الهجرة.


فقد كنا نرى في السابق أن رد السلام لا يكون إلا بقول "وعليكم"، دون زيادة "السلام" أو "الرحمة"، استنادًا إلى حديث النبي ﷺ:

"إِذَا سَلَّمَ عَلَيكُم أهلُ الكِتَابِ فَقُولُوا: وَعَلَيْكُمْ" (متفق عليه).


لكن بعد دراسة معمقة للأدلة، ومن خلال التجربة العملية وفهم الواقع المعاش، سيتبيّن لك أن هناك فروقًا عظيمة بين حال المسلمين في المدينة زمن التمكين، وبين حال أهل الإيمان في دار الكفر، مما يستوجب إعادة النظر في المسألة.


ثانيًا: الأدلة القرآنية والنبوية على جواز رد السلام كاملاً

1. القرآن يثبت جواز قول "السلام عليكم" للكفار

قال الله تعالى:

"وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ" (القصص: 55).

• وجه الدلالة:

هذه الآية تدل على أن التحية بالسلام على أهل الكتاب الصابئين جائزة في دار الكفر، لأنها وردت في المؤمنين بأنهم يسلمون على الكفار.


2. إبراهيم عليه السلام سأل الرحمة لقوم لوط الكفار قبل هلاكهم

قال الله تعالى:

"إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُّنِيبٌ" (هود: 75).

• وجه الدلالة:

جاءت هذه الآية مباشرة بعد مجادلة إبراهيم عليه السلام للملائكة في إهلاك قوم لوط، وهم كفار، وكان ذلك من رحمته بهم وسعيه لعدم هلاكهم، مما يدل على أن المؤمن يرحم الكافر ويدعو الله له برحمة خاصة في الدنيا، كالتخفيف عنهم والدعاء لهم بالهداية، وعدم استعجال العذاب عليهم.

3. النبي ﷺ دعا لقومه الكفار بالمغفرة

عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَحْكِي نَبِيًّا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ ضَرَبَهُ قَوْمُهُ فَأَدْمَوْهُ، وَهُوَ يَمْسَحُ الدَّمَ عَنْ وَجْهِهِ وَيَقُولُ : " اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِقَوْمِي ؛ فَإِنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ". رواه البخاري ومسلم.

• وجه الدلالة:

نبي يدعو للمشركين بالمغفرة، ولكن ليس مغفرة الشرك بعد الممات، بل مغفرة ذنبهم في إيذائه، ودعوتهم إلى الهداية. وهذا يدل على جواز الرحمة التي ندعو بها للكافر في الدنيا والتي تشمل الهداية والتوبة والمغفرة للذنوب التي ليست شركًا، فنقول "وعليكم السلام ورحمة الله" عند رد السلام.

4. الرحمة في الدنيا تشمل المؤمن والكافر

قال النبي ﷺ:

"الرَّاحِمُونَ يَرْحَمُهُمُ الرَّحْمَنُ، ارْحَمُوا مَنْ فِي الْأَرْضِ يَرْحَمْكُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ" (رواه الترمذي وأبو داود).

• وجه الدلالة:

لفظ الحديث يشمل رحمة المسلم والكافر في الدنيا، فكما يرحم المسلم أخاه المسلم، فإنه يرحم الكافر أيضًا بأوجه متعددة، ومنها الكلام الحسن والتحية الطيبة والدعاء له بالهداية والتوبة.

5. الحديث عن تقسيم الرحمة في الدنيا

قال النبي ﷺ:

"جعل الله الرحمة مائة جزء، فأمسك عنده تسعة وتسعين جزءًا، وأنزل في الأرض جزءًا واحدًا، فمن ذلك الجزء تتراحم الخلائق" (رواه البخاري ومسلم).

• وجه الدلالة:

الرحمة النازلة في الدنيا تشمل جميع الخلائق، المسلم والكافر، ويدخل فيها رحمة المؤمن بالكافر في الدنيا بالدعوة واللطف والمعاملة الحسنة، مما يؤكد جواز رد السلام كاملاً.

6. النبي ﷺ رحمة للعالمين وليس للمؤمنين فقط

قال الله تعالى:

"وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ" (الأنبياء: 107).

• وجه الدلالة:

النبي ﷺ رحمة للعالمين، للمؤمن والكافر، ومن مظاهر هذه الرحمة أن الكافر يُدعى له بالهداية والتوبة.

7. عيسى عليه السلام دعا لقومه الكفار بالمغفرة

قال الله تعالى عن عيسى عليه السلام:

"إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ" (المائدة: 118).

• وجه الدلالة:

عيسى عليه السلام لم يطلب من الله أن يغفر لهم شركهم بعد الممات ويدخلهم الجنة وهم كفار، ولكن دعا لهم بالمغفرة الخاصة، كالهداية والتوبة ورفع العذاب عنهم، مما يدل على أن الدعاء بالرحمة والمغفرة في الدنيا جائز، وهو نفس معنى "ورحمة الله" عند رد السلام.


8. إبراهيم عليه السلام

"وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِّلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ" (التوبة: 114).

• وجه الدلالة:

الآية تبين أن النهي عن الاستغفار للكافر وارد بعد موته على الشرك، وليس في حياته، لأنه في حياته لا يُحكم عليه بأنه من أصحاب الجحيم إلا إذا مات على الكفر. وهذا يدل على جواز الدعاء له بالمغفرة والهداية ما دام حيًّا، وهو ما يرد ايضا على شبهة قول "ورحمة الله" عند رد السلام.


9. حديث عبد الله بن أبيّ والمنافقين:

• عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُبَيٍّ لَمَّا تُوُفِّيَ جَاءَ ابْنُهُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَعْطِنِي قَمِيصَكَ أُكَفِّنْهُ فِيهِ، وَصَلِّ عَلَيْهِ، وَاسْتَغْفِرْ لَهُ، فَأَعْطَاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَمِيصَهُ، فَقَالَ : آذِنِّي أُصَلِّي عَلَيْهِ، فَآذَنَهُ، فَلَمَّا أَرَادَ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَيْهِ جَذَبَهُ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَقَالَ : أَلَيْسَ اللَّهُ نَهَاكَ أَنْ تُصَلِّيَ عَلَى الْمُنَافِقِينَ ؟ فَقَالَ : " أَنَا بَيْنَ خِيَرَتَيْنِ، قَالَ : { اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ } ". فَصَلَّى عَلَيْهِ فَنَزَلَتْ : { وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا } . رواه البخاري ومسلم

• وجه الدلالة:

هذا يبين النهي عن الاستغفار والصلاة على الكافر بعد موته، وليس في حياته.


10. حديث:

"حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ ، قَالَ : حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ ، قَالَ : حَدَّثَنَا سُفْيَانُ ، عَنْ حَكِيمِ بْنِ دَيْلَمٍ ، عَنْ أَبِي بُرْدَةَ ، عَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ : كَانَ الْيَهُودُ يَتَعَاطَسُونَ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؛ يَرْجُونَ أَنْ يَقُولَ لَهُمْ : يَرْحَمُكُمُ اللَّهُ، فَيَقُولُ : " يَهْدِيكُمُ اللَّهُ، وَيُصْلِحُ بَالَكُمْ ". وَفِي الْبَابِ عَنْ عَلِيٍّ، وَأَبِي أَيُّوبَ، وَسَالِمِ بْنِ عُبَيْدٍ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ. هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. رواه الترمذي وابو داود بمثله.

الحديث لا يحرم الدعاء لليهود بالرحمة الخاصة وهم احياء ، واليهود كانوا يجاورون النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة وليس بمكة، ونحن نرى ان الكثيرين لا يفقهون الواقع الذي نعيشه ولا يميزون بين ما جاء من الاحاديث في المدينة وما كان معمولا به قبل الهجرة ، ويجترئون على الكلام في الدين غير عالمين بالناسخ والمنسوخ وغيرها من اصول الفقه. وهذا ولله الحمد يبين ان بين الفريقين كما بين السماء والارض، بين فريق الجماعة والفرق الخارجة عن جماعة المسلمين.



ثالثًا: مداراة أهل الكتاب الصابئين عند الحاجة

قال الله تعالى:

"إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً" (آل عمران: 28).

• وجه الدلالة:

المداراة في التعامل مع أهل الكتاب الصابئين جائزة عند الحاجة.


قال الله تعالى عن مخاطبة موسى وهارون عليهما السلام لفرعون:

"فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَىٰ" (طه: 44).

• وجه الدلالة:

الله سبحانه وتعالى أمر موسى وهارون عليهما السلام أن يخاطبا فرعون – وهو من أعظم الطغاة والكفار – بقولٍ ليّن، لعلّه يتذكر أو يخشى.


خاتمة: لماذا تغير اجتهادنا في هذه المسألة؟

• لأن النصوص القرآنية والسنة النبوية تدل على أن الرحمة في الدنيا تشمل الجميع، مؤمنهم وكافرهم.

• لأن واقع جماعة المسلمين اليوم يفرض علينا التعامل بالعفو والمغفرة، والصبر على حكم الله.

• لأننا نفرق بين الرحمة الخاصة والعامة ونبين ان المقصود قول "وعليكم السلام ورحمة الله" أمر مشروع في حدود الدنيا.

• لأن الاجتهاد ليس جامدًا، بل يتغير وفق الحاجة والمصلحة ويساير الواقع المتغير.

• لأن من قواعد جماعة المسلمين التدرج والمرحلية والعمل بالاحكام المنسوخة التي وردت في القرآن حال ضعف المسلمين.

 
 
 

المنشورات الأخيرة

إظهار الكل
التدريس العتيق

السؤال: نحن بصدد إفتتاح التسجيل بالباك الحر هذا الموسم، ما رأيكم بفكرة للأعضاء بأن يترشحو لدراسة مسلك التعليم الأصيل شعبة العلوم الشرعية كي ندرس الفقه الإسلامي. الإجابة: الحمد لله وبعد، مأجور إن شاء

 
 
 
الجهمية المعاصرون

لماذا نقول عنهم جهمية؟ الحمد لله وبعد، نقول عنهم جهمية لأنهم وافقوا قول الجهمية في مسألة الإيمان، كيف ذلك؟ من المعلوم أن الأقوال في تعريف الإيمان ثلاثة، قول أهل السنة والجماعة، قول المرجئة وقول الجهمي

 
 
 
هل نحن خوارج؟

بسم الله الرحمن الرحيم، يوجد عدة فروق بين جماعة المسلمين والخوارج : ١. جماعة المسلمين لا تكفر صاحب الكبيرة فيما دون الشرك والخوارج يكفرون العاصي صاحب الكبيرة. ٢. جماعة المسلمين لم تخرج على إمام المسلم

 
 
 

تعليقات


جماعة المسلمين وإمامهم

البريد الإلكتروني: Imamabounacer@gmail.com

الهاتف : 00212661707896

  • بيعة الإسلام لله
  • جماعة المسلمين وإمامهم
  • Telegram
  • الصفحة الرسمية على فيسبوك
  • وتساب
bottom of page