top of page

سبيل المؤمنين

بسم الله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد،

فإن طاعة الله ورسوله من مقتضيات الإيمان الصحيح، قال الله: "قل أطيعوا الله والرسول فإن تولوا فإن الله لا يحب الكافرين" وقال "ومن يطع الرسول فقد أطاع الله" فطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم عنوان الإسلام. وما من رسول بعثه الله إلا أمر الناس بطاعته، كما قال عيسى عليه السلام، وقال هود وصالح ولوط وشعيب لأقوامهم: فاتقوا الله وأطيعون. وقال نوح: اتقوا الله واعبدوه وأطيعون. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كل أمتي يدخل الجنة إلا من أبى، قالوا: يا رسول الله ومن يأبى، قال: من أطاعني دخل الجنة ومن عصاني فقد أبى. 

والطاعة ليست محصورة في بعض فروع الشريعة والشعائر التعبدية واللباس والمظهر، فالدين لا يؤخذ بالجزئية بل بالكلية والشمولية. وقد أمر الله سبحانه عباده المؤمنين به المصدقين برسوله أن يأخذوا بجميع عرى الإسلام وشرائعه، والعمل بجميع أوامره، وترك جميع زواجره ما استطاعوا من ذلك. قال "ادخلوا في السلم كافة". فدين الإسلام يعم كل مناحي الحياة بمنهج ثابت في قواعده وأحكامه، مساير لمتغيرات الزمان والمكان والأقوام، عن طريق الاجتهاد والتجديد، وبتنزيل سديد للنص على الواقع.

فكيف يكون المرء مطيعا لله ورسوله؟ 
داخلا في السلم كافة؟ 
متبعا سبيل المؤمنين؟ 
ومن هم المؤمنون الذين أمرنا باتباعهم؟ 
ولماذا يكون مشركا من لم يتبع سبيلهم؟
وما السبيل إلى معرفة الحق فيما استجد من القضايا التي لم تكن في زمانهم؟

هذا وغيره من الأسئلة المصيرية، المرتبطة بالسعادة والشقاء في الدنيا والآخرة، ما سيتم بيانه فيما يلي من هذه الرسالة إن شاء الله.

فصل أول: طاعة الرسول تقتضي اتباع الصحابة.

قال الله عز وجل "وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا". فبين أن الذي يطيع الرسول ولا يشاقه هو الذي يتبع سبيل المؤمنين. والمؤمنون الذين وجب اتباعهم هم الصحابة رضي الله عنهم، كما دل عليه قوله تعالى "آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ ۚ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ ۚ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا". ف"آمن" فعل ماض، والمؤمنون الذين وجدوا وقت نزول القرآن وقالوا سمعنا وأطعنا ونزلت فيهم هذه الآية هم الصحابة رضوان الله عليهم.

فإن قال قائل: {العبرة بعموم اللفظ وليست بخصوص السبب} يقصد أن من اتبع المؤمنين في أي زمان فإنه يشمله عموم أمره سبحانه باتباع المؤمنين، وليس بالضرورة حصر المؤمنين الواجب اتباعهم في سبب نزول الآية، أي الصحابة. قلنا قول حق أريد به باطل، لأن المؤمن إن اتبع مؤمنين من أهل زمانه، فكذلك هؤلاء المؤمنون يجب عليهم اتباع من كان قبلهم من المؤمنين. وهكذا إلى أن يصل الأمر إلى زمن التابعين الذين تبعوا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، المؤمنين الذين يمثلون آخر السلسلة رجوعا إلى الوراء وأوليها منذ نزول القرآن. فلا يكون مؤمنا في زمن من الأزمنة إلا من اتبع منهجم، وبقدر اتباعهم في القول والعمل يتفاوت الناس في الخير والفضل. 

هم الذين لم يبدلوا دين الرسول صلى الله عليه وسلم، ولو بدلوا تبديلا واحداً لم يكونوا مؤمنين ولا رجالا ولا صادقين. قال الله: "مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ ۖ فَمِنْهُم مَّن قَضَىٰ نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلا"، وقال "فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِّنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ" فسمى الذين بدلوا قولا واحدا بالظالمين الفاسقين. 

وعلى ضوء ما سبق يمكن لكل قاصد للحق، أن يستبصر معنى الحديث الشريف: افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة، وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة، قيل: من هي يا رسول الله؟ قال: من كان على مثل ما أنا عليه وأصحابي. وقال: هي الجماعة. رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه.

فصل ثاني: سبيل المؤمنين هي الجماعة.

فقوله صلى الله عليه وسلم: ما أنا عليه اليوم وأصحابي، وقوله: الجماعة، بنفس المعنى. أي جماعة المسلمين، التي لها إمام يسوسها بكتاب الله وسنة رسوله، فتلك هي سبيل المؤمنين. 


والدليل على اشتراط الكتاب والسنة قوله تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ". فقوله "منكم" أي من المؤمنين الذين يطيعون الله ورسوله ويحكمون الكتاب والسنة. كما قال عز وجل: "فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ " أي من لا يرد النزاع إلى الكتاب والسنة فليس مؤمنا بالله ولا باليوم الآخر، وليس من أولي الأمر المأمور بطاعتهم. وكذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن أُمِّرَ عليْكم عبدٌ حبشيٌّ مجدَّعٌ فاسمعوا لَهُ وأطيعوا ما قادَكم بِكتابِ اللَّهِ. رواه بن ماجه بسند صحيح. وفي صحيح مسلم: إن أُمِّر عليكم عبدٌ مجدَّع -حسبتها قالت أسود يقودكم بكتاب الله تعالى فاسمعوا له وأطيعوا. كتاب الإمارة.

فلا يكون من الجماعة المسلمة إلا أمير ومؤتمر. فالرسول صلى الله عليه وسلم أمير للمؤمنين جميعهم، أبيضهم وأسودهم عربهم وعجمهم، منذ بعثته إلى يوم الدين. ويخلفه في ذلك الخلفاء الراشدون رضوان الله عليهم وأئمة المسلمين. ثم الولاة والوزراء والأمراء مسؤولون في مجالات نفوذهم. والرجال أمراء لنسائهم، والنساء أميرات في بيوتهن وأولادهن. فالكل راع والكل مسؤول عن رعيته، بحيث يعم هذا النظام المتكامل والبنيان المرصوص عموم المسلمين، بدون استثناء في حضر أو سفر. في الحديث: إذا خرج ثلاثة في سفر فليُأَمرُوا أحدهم.

ونظرا لغياب دولة إسلامية متمكنة تمثل هذا المنهج النبوي المستقيم، فإنه فرض عين على كل فرد من الجماعة السعي إلى إقامتها بكل ما أوتي من جهد، والصبر على الأذى في ذلك إلى أقصى حد، لقوله عز وجل: شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ. وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي عضوا عليها بالنواجذ. 

وليس التمسك بالحق في هذا الأمر، وفي غيره من الفرائض غلوا أو تنطعا. لقد أمرنا الله بالتمسك بالحق وأخذه بقوة فقال: "خذوا ما آتيناكم بقوة" وقال: "استمسك بالذي أوحي إليك إنك على صراط مستقيم" ونهى عن الغلو فقال: "لا تغلوا في دينكم غير الحق"، فعلم أن الغلو هو مخالفة الحق وليس التمسك به. "يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله".

فأي وهم أكبر ممن جعل اتباع الكتاب والسنة غلوا، سواء هو ومن اتخذ عيسى ربا من دون الله. فمن خيل له وجود التعارض في النصوص فالمتهم هو فهمه وليس النصوص. لأنه إن سلم من الوهم، كما في المثال السابق، فإن النصوص منها العام والخاص، والمطلق والمقيد، والناسخ والمنسوخ، والمتقدم والمتأخر، وهي كلها أوجه للتوفيق بين الأدلة الصحيحة التي ظاهرها التعارض.

فصل ثالث: اتباع سبيل المؤمنين من مقتضيات التوحيد.

قال الله سبحانه: "إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء" وقال: "ولا تكونوا من المشركين * من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا كل حزب بما لديهم فرحون" وقال: "وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله".

فدل قوله عز وجل على أن تفريق الدين شرك، وأنه يكون بأمرين:
- الأول، ترك اتباع سبيل المؤمنين وصراط الله المستقيم،
- والثاني، ابتداع سبل لم تكن واتباع المحدثة منها سلفا.

فاتباع "سبيل المؤمنين" إذا ليس خير تطبيق لشهادة أن "لا إله إلا الله" فحسب، ولكنه المنهج الوحيد الذي يمثل هاته الكلمة الطيبة في أرض الواقع. ولله سبحانه في كل شأن من شؤون الحياة، أولها وآخرها، دقها وجلها، ما علمنا منها وما لم نعلم، أمرا وحكما. والعبودية التامة المقبولة تكمن في امتثال أمر الله وحكمه في كل شيء، وإفراده مصدرا للتشريع. وهذا ما كانت تفعله جماعة المسلمين في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، فوجب اتباعها.

قال الله عز وجل: "اليوم أكملت لكم دينكم" وقال: "ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء" وقال: "ما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن تكون لهم الخيرة من أمرهم".

فمدار الأعمال على أمرين، لا ثالث لهما. إما أن يكون خيرا يقرب إلى رحمة الله، وإما أن يكون شرا يقرب إلى سخط الله. وما بعث الله من نبي إلا أخبر قومه بكل خير يعلمه لهم، وحذرهم من كل شر يعلمه لهم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إنه ليس شيء يقربكم إلى الجنة إلا قد أمرتكم به، وليس شيء يقربكم إلى النار إلا قد نهيتكم عنه".

ثم إن عدم الالتزام بما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم والصحابة، واستحسان البدع المخالفة للتنزيل، إنما ينبئ عن إساءة الظن بالله واتهام شرعه بالنقص من جهة، وعن قبول مصادر تشريعية تتمم ما نقص من شرعه من جهة أخرى، وهذا هو الشرك الذي لا مغفرة لمن مات عليه.

"أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله " "اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء" "ولكن ظننتم أن الله لا يعلم كثيرا مما تعملون * وذلكم ظنكم الذي ظننتم بربكم أرداكم فأصبحتم من الخاسرين".

ولمزيد من البيان عن كون سبيل المؤمنين الذي يكفر مخالفه هو الجماعة، فإن الإجماع مرتبط بالجماعة. وقد نص الشافعي رحمه الله على كون الإجماع حجة تحرم مخالفته. قال رضي الله عنه في الرسالة: فكنا نقول بما قالوا به اتباعا لهم، ونعلم أنهم إذا كانت سنن رسول الله لا تعزب عن عامتهم، وقد تعزب عن بعضهم. ونعلم أن عامتهم لا تجتمع على خلاف لسنة رسول الله، ولا على خطأ، إن شاء الله.

فإن قال: فهل من شيء يدل على ذلك وتشده به؟
فقلت: عن عبد الله بن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ثلاث لا يغل عليهن قلب مسلم: إخلاص العمل لله، ونصيحة المسلمين، ولزوم جماعة المسلمين، فإن دعوتهم تحيط من ورائهم. وعن عمر بن الخطاب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أكرموا أصحابي ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ثم يظهر الكذب، حتى إن الرجل يحلف ولا يستحلف ويشهد ولا يستشهد، ألا فمن سره أن يسكن بحبوحة الجنة فليلزم الجماعة، فإن الشيطان مع الفذ وهو من الإثنين أبعد،

قال: فما معنى أمر النبي صلى الله عليه وسلم بلزوم جماعتهم؟
قلت: إذا كانت جماعتهم متفرقة في البلدان فلا يقدر أحد أن يلزم جماعة أبدان قوم متفرقين، وقد وجدت الأبدان تكون مجتمعة من المسلمين والكافرين والأتقياء والفجار، فلم يكن في لزوم الأبدان معنى لأنه لا يمكن ولأن اجتماع الأبدان لا يصنع شيئا، فلم يكن للزوم جماعتهم معنى إلا ما عليه جماعتهم من التحليل والتحريم والطاعة فيهما. ومن قال بما تقول به جماعة المسلمين فقد لزم جماعتهم، ومن خالف ما تقول به جماعة المسلمين فقد خالف جماعتهم التي أمر بلزومها. وإنما تكون الغفلة في الفرقة، فأما الجماعة فلا يمكن فيها كافة غفلة عن معنى كتاب الله تعالى ولا سنة ولا قياس، إن شاء الله. انتهى من الرسالة.

وقد استدل رحمة الله عليه على حجية الإجماع بهذه الآية: "
وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَىٰ وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّىٰ وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ ۖ وَسَاءَتْ مَصِيرًا ". وقال ابن جرير أضاء الله قبره: "ويتبع غير سبيل المؤمنين "، يقول: ويتبع طريقًا غير طريق أهل التصديق، ويسلك منهاجًا غير منهاجهم، وذلك هو الكفر بالله، لأن الكفر بالله ورسوله غير سبيل المؤمنين وغير منهاجهم. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: : لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة. رواه البخاري ومسلم. وقال: من بدل دينه فاقتلوه. رواه البخاري

فإلى هنا تبين أن إجماع الصحابة حجة يحرم مخالفته كما يحرم مخالفة الكتاب ومخالفة السنة الثابتة. وكذلك ما اتفقت عليه جماعة المسلمين في كل عصر، مما لا يخالف كتاب الله وسنة نبيه والإجماع المتقدم، فهو حجة وهو سبيل المؤمنين. ومن كذب الحجة في مسألة واحدة بعد علمه أنها حجة كفر. أما تارك الجماعة بالكلية فقد ترك أصلا من أصول الاستدلال، ومصدرا من مصادر الدين، وخالف الحجج أجمعين، واتبع غير سبيل المؤمنين، وهو كافر ببعض الكتاب وإن آمن ببعض، وهو ومن أقر بالقرآن وجحد السنة في الكفر سواء. 

فصل رابع: النية لا تصلح العمل والغاية لا تبرر الوسيلة.

فإن قال لنا قائل: أليس المهم هو النية؟
ألم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنما الأعمال بالنيات؟ 

فإننا نقول ... كلا، ليس هذا هو المقصود بالحديث، لكن المعنى: إنما الأعمال الصالحة بالنيات. وكما ينظر لسبب النزول في تفسير القرآن، كذلك ينظر لسبب الورود في فهم الحديث، والكلام هنا عن الهجرة التي هي عمل صالح، أمر الله تعالى به وعمله رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنون، مثله مثل الصدقة والصوم والصلاة. وهذا نص الحديث كاملا: انما الاعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله ومن كانت هجرته الى امرأة ينكحها أو دنيا يصيبها فهجرته الى ما هاجر اليه.

فمن الأهمية بمكان معرفة سبب ورود الحديث من أجل فهم المراد منه، وكذا الاعتبار الشامل للأدلة والأحاديث بحيث لا يضرب حديث بحديث ولا آية بحديث، لكن يتم التوفيق بينها وفهمها على الوجه الذي أراده الله ورسوله. فقد قال صلى الله عليه وسلم:
من عمل عملا ليس عليه امرنا فهو رد،
من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد،
إن خير الكلام كلام الله وخير الهدي هدي محمد وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار.

إذا المهم ليس هو النية فقط، بل لا بد من التمييز بين العمل الصالح والبدعة، ولا يقبل العمل حتى يستوفي هذان الشرطان: حسن النية، وهو ما كان خالصا لوجه الله، وصلاح العمل، وهو ما وافق سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. 

أيضا، من الأحاديث التي حرف معناها قوله صلى الله عليه وسلم: من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها بعده لا ينقص من أجورهم شيء. فقد زين الشيطان لأقوام الابتداع في الدين على أنه سنة حسنة. فكذبوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحملوا النص على ما يوافق أهواءهم أبعد ما يكون عن مراد الله ورسوله. قال جل ثناءه: "قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا . الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا".

فعن جرير رضي الله عنه قال: كنَّا عِنْدَ رَسولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ في صَدْرِ النَّهَارِ، قالَ: فَجَاءَهُ قَوْمٌ حُفَاةٌ عُرَاةٌ مُجْتَابِي النِّمَارِ أَوِ العَبَاءِ، مُتَقَلِّدِي السُّيُوفِ، عَامَّتُهُمْ مِن مُضَرَ، بَلْ كُلُّهُمْ مِن مُضَرَ فَتَمَعَّرَ وَجْهُ رَسولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ لِما رَأَى بهِمْ مِنَ الفَاقَةِ، فَدَخَلَ ثُمَّ خَرَجَ، فأمَرَ بلَالًا فأذَّنَ وَأَقَامَ، فَصَلَّى ثُمَّ خَطَبَ فَقالَ: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الذي خَلَقَكُمْ مِن نَفْسٍ وَاحِدَةٍ} إلى آخِرِ الآيَةِ، {إنَّ اللَّهَ كانَ علَيْكُم رَقِيبًا} وَالآيَةَ الَّتي في الحَشْرِ: {اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ} تَصَدَّقَ رَجُلٌ مِن دِينَارِهِ، مِن دِرْهَمِهِ، مِن ثَوْبِهِ، مِن صَاعِ بُرِّهِ، مِن صَاعِ تَمْرِهِ، حتَّى قالَ، ولو بشِقِّ تَمْرَةٍ قالَ: فَجَاءَ رَجُلٌ مِنَ الأنْصَارِ بصُرَّةٍ كَادَتْ كَفُّهُ تَعْجِزُ عَنْهَا، بَلْ قدْ عَجَزَتْ، قالَ: ثُمَّ تَتَابَعَ النَّاسُ، حتَّى رَأَيْتُ كَوْمَيْنِ مِن طَعَامٍ وَثِيَابٍ، حتَّى رَأَيْتُ وَجْهَ رَسولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ يَتَهَلَّلُ، كَأنَّهُ مُذْهَبَةٌ، فَقالَ رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ: مَن سَنَّ في الإسْلَامِ سُنَّةً حَسَنَةً، فَلَهُ أَجْرُهَا، وَأَجْرُ مَن عَمِلَ بهَا بَعْدَهُ، مِن غيرِ أَنْ يَنْقُصَ مِن أُجُورِهِمْ شيءٌ، وَمَن سَنَّ في الإسْلَامِ سُنَّةً سَيِّئَةً، كانَ عليه وِزْرُهَا وَوِزْرُ مَن عَمِلَ بهَا مِن بَعْدِهِ، مِن غيرِ أَنْ يَنْقُصَ مِن أَوْزَارِهِمْ شيءٌ.

فالحديث وارد في الصدقة، وهي عمل صالح موافق لنصوص الكتاب والسنة وعمل المؤمنين. فأين الدليل فيه على جواز الابتداع في الدين أو التقرب إلى الله بفعل ليس عليه دليل؟ لا سيما والشريعة كلها تأمر بالاتباع وتنهى عن الابتداع.

وقد بلغ ابن مسعود رضي الله عنه أن قوما يصنعون حلقا في المسجد، في كل حلقة رجل وفي أيديهم حصا، فيقول كبروا مئة فيكبرون مئة، فيقول هللوا مئة فيهللون مئة، فيقول سبحوا مئة فيسبحون مئة، فمضى حتى أتى حلقة من تلك الحلق فوقف عليهم، فقال: ما هذا الذي أراكم تصنعون؟ قالوا: يا أبا عبد الرحمن حصا نعد به التكبير والتهليل والتسبيح. قال: فعدوا سيئاتكم، فأنا ضامن ألا يضيع من حسناتكم شيء...ويحكم يا أمة محمد، ما أسرع هلكتكم! هؤلاء صحابة نبيكم صلى الله عليه وسلم متوافرون، وهذه ثيابه لم تبل، وآنيته لم تكسر. والذي نفسي بيده، إنكم لعلى ملة هي أهدى من ملة محمد صلى الله عليه وسلم أو مفتتحوا باب ضلالة. قالوا: يا أبا عبد الرحمن ما أردنا إلا الخير، قال: وكم من مريد للخير لن يصيبه ...؟ إن رسول الله صلى الله عليه وسلم حدثنا أن قوما يقرءون القرآن لا يجاوز تراقيهم، وايم الله ما أدري لعل أكثرهم منكم ... ثم تولى عنهم.

فصل خامس: الرد على الشبه من خلال أصول الفقه.

الجزء الأول: شبهة أصحاب المعاصي.
كما ذكرت من قبل، فقد ثبت في الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة، وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة، قيل: من هي يا رسول الله؟ قال: من كان على مثل ما أنا عليه وأصحابي. وفي بعض الروايات: هي الجماعة.  وروى البخاري ومسلم عن حذيفة بن اليمان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: تَلْزَمُ جَمَاعَةَ المُسْلِمِينَ وإمَامَهُمْ، قال قُلتُ: فإنْ لَمْ يَكُنْ لهمْ جَمَاعَةٌ ولَا إمَامٌ؟ قالَ فَاعْتَزِلْ تِلكَ الفِرَقَ كُلَّهَا، ولو أَنْ تَعَضَّ بأَصْلِ شَجَرَةٍ، حتَّى يُدْرِكَكَ المَوْتُ وأَنْتَ علَى ذلكَ. وهذه الأدلة جمعت بين الفرق الضالة من هاته الأمة، في كونها في النار مطلقا ويجب اعتزالها مطلقا. 

أما من جعل النار المطلقة نارا مقيدة مؤقتة، وصرف الاعتزال المطلق إلى المقيد، وهو اعتزال أصحاب المعاصي، فإنه يطلب إليه الدليل. إذ لا يصح تقييد مطلق أو تخصيص عام بغير دليل. ورسول الله صلى الله عليه وسلم أخبر أن الفرق كلها لها نفس الحكم. فتخصيص الحكم المطلق ببعض الفرق والحكم المقيد بالبعض الآخر هو تخصيص وتفريق بدون دليل. وعليه، فإنه يلزم القائل بأن النار ليست خالدة، أن يجعل كل الفرق تخرج من النار بما فيها عباد القبور كالرافضة والصوفية وأشباههم... فإن قال يخرجون من النار، قيل له إن الله لا يغفر أن يشرك به. وإن قال لا يخرجون، قيل له بم خصصت وفرقت؟ ودليل التفريق لا وجود له...أكفاركم خير من أولئكم أم لكم براءة في الزبر؟

فإن قال ألم يعتزل المسلمون كعب بن مالك لما تخلف عن غزوة تبوك مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عاصي وليس كافر. نقول وبالله التوفيق، إن حديث كعب رضي الله عنه لا يصلح للاحتجاج في هذا الموضع إذ لا استدلال مع وجود الفارق، والفارق أن كعبا عمل معصية نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم على إثرها المسلمين عن كلامه خاصة، أما الأمر باعتزال الفرق فقد جاء عاما وليس مختصا بالكلام، ولم يذكر في الحديث أن المعتزل عاصي ولا غير عاصي، وقد أُمر فيه باعتزال من لا جماعة لهم ولا إمام، بينما كان كعب مع الجماعة في دار الإسلام.

فإن قال هل تنكر خروج العصاة من النار؟ قيل إن المعصية لا تخرج من الجماعة، فقد ثبت أن رجلا شرب الخمر وامرأة زنت وأخرى سرقت في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، ولم يقل أحد أنهم بذلك فارقوا جماعة المسلمين وإمامهم وصاروا من الفرق. فأصحاب المعاصي خالدون في الجنة. وهم من الجماعة التي في الجنة وليسوا من الفرق التي في النار.

فإن قال إن المسلمين افترقوا زمن علي ومعاوية رضي الله عنهما ولم يكن من أحدهما تكفير للآخر؟ قيل إن طائفتي علي ومعاوية رضي الله عنهما كلاهما على الجماعة، متمسكون بالتوحيد، محاربون للشرك، ملتزمون بالجماعة والإمامة والشريعة. وإنما كان اختلافهم في الأحق بالإمامة وفي تحديد الوقت الأصلح للاقتصاص من قتلة عثمان رضي الله عنه. وهذا الخلاف ليس خلافا في أصل الدين. فأين هم القوم الذين ليس لهم جماعة ولا إمام ولا يتحاكمون إلى الكتاب والسنة من طائفتي علي ومعاوية رضي الله عنهما؟ وكيف ساغ عندكم الاستدلال بحكم هؤلاء على هؤلاء مع الفارق العظيم الموجود بين الفريقين؟

فإن قال هل تنكر أن البدع منها المكفرة ومنها غير المكفرة؟ قل له إن البدعة غير المكفرة، هي معصية لا تخرج صاحبها من جماعة المسلمين. وأما الفرق التي أخبر الله ورسوله أنها خالدة في النار، فهي الفرق ذات البدع المكفرة التي ليست مع الجماعة. فالقاعدة أن الطائفة المؤمنة والفئة المسلمة، ما لم ينقضوا التوحيد، فهم من الجماعة وإن عملوا المعاصي. وأما الفرق المشركة فإنها قد فارقت الجماعة بناقض من نواقض التوحيد. فإما أنها تعبد القبور أو تتحاكم إلى الطاغوت أو تنفي صفات الله أو توالي الكافرين، أو أنها لم تلتزم بسبيل المؤمنين وجماعة المسلمين، أو غير ذلك من نواقض الإسلام. وباختصار، فما وافق الحق هو الجماعة وما خالف الجماعة هو الشرك والفرقة.

قال ألم يخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن المسلمين اليوم كثير وهم غثاء كغثاء السيل؟

قلت لعلك تقصد حديث ثوبان رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يوشك الأمم أن تداعى عليكم، كما تداعى الأكلة إلى قصعتها. فقال قائل: ومِن قلَّةٍ نحن يومئذ؟ قال: بل أنتم يومئذٍ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السَّيل، ولينزعنَّ الله مِن صدور عدوِّكم المهابة منكم، وليقذفنَّ الله في قلوبكم الوَهَن. فقال قائل: يا رسول الله، وما الوَهْن؟ قال: حبُّ الدُّنيا، وكراهية الموت. رواه أبو داود وأحمد.

فهذا الحديث لم يُذكر فيه أنه مختص بهذا الزمن دون الأزمنة التي مضت عبر التاريخ والتي اجتمعت فيها الأمم على محاربة أمة محمد صلى الله عليه وسلم. ثانيا ليس في الحديث أن الناس يومئذ مسلمون وجائز أن يخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بما سيكون من أمته الذين كفروا من بعده وهو يخاطب المسلمين بكاف الخطاب لأن كلا الفريقين من أمته. 

والدليل: عَنِ ابْنِ عُمَرَ ، قَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : " إِذَا تَبَايَعْتُمْ بِالْعِينَةِ ، وَأَخَذْتُمْ أَذْنَابَ الْبَقَرِ، وَرَضِيتُمْ بِالزَّرْعِ، وَتَرَكْتُمُ الْجِهَادَ ؛ سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ ذُلًّا لَا يَنْزِعُهُ حَتَّى تَرْجِعُوا إِلَى دِينِكُمْ ". رواه أبو داود، فالشاهد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يخاطب المسلمين وصف ما يكون في أمته حين يتركون الدين ويسلط عليهم الذل وليس المقصود بذلك الصحابة رضوان الله عليهم ولكن هذا النوع من الخطاب معروف في لغة العرب. 

ومن ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: لَتَتَّبِعُنَّ سنَنَ مَن قَبْلَكُمْ شِبْرًا بشِبْرٍ، وَذِرَاعًا بذِرَاعٍ، حتَّى لو سَلَكُوا جُحْرَ ضَبٍّ لَسَلَكْتُمُوهُ، قُلْنَا: يا رَسُولَ اللَّهِ، اليَهُودَ وَالنَّصَارَى؟ قالَ: فَمَنْ؟ رواه البخاري. فإن اليهود والنصارى كفار ومن اتبع سننهم شبرا بشبر وذراعا بذراع لا يمكن أن يكونوا مسلمين. 

قال: أرأيت قول النبي صلى الله عليه وسلم عن الفرق أنها من أمته، فهل يعني ذلك أنهم مسلمون؟

قلت قول النبي صلى الله عليه وسلم عن قوم أنهم من أمته لا يستلزم كونهم مسلمين، لأنه صلى الله عليه وسلم أخبر أن سيكون من أمته من يستحل الخمر، ومن يكذب بالقدر، ومن يخرج من الدين، ومن هم من أصحاب الشمال ولم يزالوا مرتدين، وملعونات لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها، ونظائر ذلك مما يطول الكتاب بذكره. وهاته كلها أوصاف الكفار. 

قال صلى الله عليه وسلم: لَيَكونَنَّ مِن أُمَّتي أقْوامٌ يَسْتَحِلُّونَ الحِرَ والحَرِيرَ، والخَمْرَ والمَعازِفَ، ولَيَنْزِلَنَّ أقْوامٌ إلى جَنْبِ عَلَمٍ، يَرُوحُ عليهم بسارِحَةٍ لهمْ، يَأْتِيهِمْ -يَعْنِي الفقِيرَ-لِحاجَةٍ، فيَقولونَ: ارْجِعْ إلَيْنا غَدًا، فيُبَيِّتُهُمُ اللَّهُ، ويَضَعُ العَلَمَ، ويَمْسَخُ آخَرِينَ قِرَدَةً وخَنازِيرَ إلى يَومِ القِيامَةِ. رواه البخاري

وقال: سيكون في آخر أمتي رجال يركبون على السروج كأشباه الرحال ينزلون على أبواب المساجد، نساؤهم كاسيات عاريات على رؤوسهن كأسنمة البخت العجاف، العنوهن فإنهن ملعونات. لو كانت وراءكم أمة من الأمم لخدمن نساؤكم نساءهم كما يخدمنكم نساء الأمم قبلكم. رواه أحمد وقد كان نساء أهل الكتابين إذا وقعن في السبي صرن إماء وخدما للمسلمين.

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " صِنْفَانِ مِنْ أُمَّتِي مِنْ أَهْلِ النَّارِ لَمْ أَرَهُمْ بَعْدُ : نِسَاءٌ كَاسِيَاتٌ عَارِيَاتٌ، مَائِلَاتٌ مُمِيلَاتٌ، عَلَى رُءُوسِهِنَّ أَمْثَالُ أَسْنِمَةِ الْإِبِلِ، لَا يَدْخُلْنَ الْجَنَّةَ، وَلَا يَجِدْنَ رِيحَهَا، وَرِجَالٌ مَعَهُمْ أَسْيَاطٌ كَأَذْنَابِ الْبَقَرِ، يَضْرِبُونَ بِهَا النَّاسَ ". رواه أحمد

عَنِ ابْنِ عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَكُونُ فِي أُمَّتِي خَسْفٌ وَمَسْخٌ، وَذَلِكَ فِي الْمُكَذِّبِينَ بِالْقَدَرِ. حديث حسن رواه الترمذي

قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ بَعْدِي مِنْ أُمَّتِي، أَوْ سَيَكُونُ بَعْدِي مِنْ أُمَّتِي قَوْمٌ يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ، لَا يُجَاوِزُ حَلَاقِيمَهُمْ، يَخْرُجُونَ مِنَ الدِّينِ كَمَا يَخْرُجُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ، ثُمَّ لَا يَعُودُونَ فِيهِ، هُمْ شَرُّ الْخَلْقِ وَالْخَلِيقَةِ. رواه مسلم

عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَلَا وَإِنَّهُ يُجَاءُ بِرِجَالٍ مِنْ أُمَّتِي، فَيُؤْخَذُ بِهِمْ ذَاتَ الشِّمَالِ، فَأَقُولُ: يَا رَبِّ أُصَيْحَابِي. فَيُقَالُ: إِنَّكَ لَا تَدْرِي مَا أَحْدَثُوا بَعْدَكَ. فَأَقُولُ كَمَا قَالَ الْعَبْدُ الصَّالِحُ: وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ. فَيُقَالُ: إِنَّ هَؤُلَاءِ لَمْ يَزَالُوا مُرْتَدِّينَ عَلَى أَعْقَابِهِمْ مُنْذُ فَارَقْتَهُمْ. رواه البخاري

الجزء الثاني: شبهة نحن/أنا الجماعة.
كثير من الناس يقول: نحن نلتزم بالجماعة، وهم لا يظهرون التوحيد ولا يكفرون بالطاغوت وأتباعهم. فالجواب أن الالتزام بالجماعة لا يثبت بمجرد الانتساب، ولكن من دعا إلى الله وأظهر الدين، فتبرأ من الشعوب المحكمة للدستور. لأن تحكيم الشعب والبرلمان، والديمقراطية، والوطنية، والعلمانية، كلها بدع مكفرة، مثلها مثل عبادة القبور والأصنام والصليب. فلا يصح الإسلام لأحد إلا بالبراءة من هاته ومن أصحابها، مع موالاة الله ورسوله والمؤمنين. قال الله: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَىٰ أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ۚ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ" وقال "إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا". قال ابن عباس يعني: أنه من أسلم تولى الله ورسوله.

فالبراءة من الكافرين تكون بترك دينهم واعتقاد كفرهم، وإعلان الانفصال التام عنهم ومفارقتهم، واجتناب مودتهم. والولاء للمؤمنين يكون بالانضمام إليهم ومبايعة إمامهم ولزوم جماعتهم والدخول في دينهم والإقرار بما هم عليه والانتساب إليهم وترك الانتساب إلى سواهم، ومناصرتهم وترك المناصرة عليهم، ومحبتهم وترك محبة من سواهم. وكما أن الولاء للمؤمنين لا يصح إلا بالبراءة من الكافرين، فإن البراءة من الكافرين لا تصح إلا بالولاء للمؤمنين. فالولاء والبراء متلازمان، لا ينفك أحدهما عن الآخر. أرجو أن تكون المسألة اتضحت.

ثم لدينا مثال اخر من الشبه، المنتشرة كثيرا، وهي قولهم: ألم يقل بن مسعود رضي الله عنه: الجماعة ما وافق الحق وإن كنت وحدك. فالجواب من وجهين: الأول أن بن مسعود رضي الله كان مبايعا لجماعة المسلمين وإمامهم، وكان يأمر بالجماعة كما سيأتي معنا في الحديث. الوجه الثاني، أن النص العام لا يمكن فهمه في منأى عن الأدلة الموجودة في المسألة. لكن يجب أخذ الأدلة جميعا وفهمها الفهم الصحيح الذي يوفق بين الأدلة بما يتوافق مع أصول الشريعة. وليس كما يفعل أصحاب الأهواء فإنهم يضربون النصوص بعضها ببعض، ويؤمنون بما وافق أهواءهم ويكفرون بما خالفها.

فالحديث الوارد عن بن مسعود رضي الله عنه، روي عن عمرو بن ميمون الأودى وهو من كبار التابعين أنه قال: صحبت معاذا باليمن، فما فارقته حتى واريته في التراب بالشام، ثم صحبت بعده أفقه الناس عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، فسمعته يقول: عليكم بالجماعة، فإن يد الله على الجماعة، ثم سمعته يوما من الأيام وهو يقول: سيلي عليكم ولاة يؤخرون الصلاة عن مواقيتها، فصلوا الصلاة لميقاتها فهي الفريضة، وصلوا معهم فإنها لكم نافلة، قلت: يا أصحاب محمد، ما أدرى ما تحدثونا؟ قال: وما ذاك؟ قلت: تأمرني بالجماعة وتحضني عليها ثم تقول: صل الصلاة وحدك، وهي الفريضة، وصل مع الجماعة وهي نافلة؟ قال: يا عمرو بن ميمون، قد كنت أظنك من أفقه أهل هذه القرية، تدري ما الجماعة؟ قلت: لا، قال: إن جمهور الجماعة: الذين فارقوا الجماعة، الجماعة ما وافق الحق، وإن كنت وحدك. 

فالحديث واضح في الأمر والترغيب في الجماعة من جهة، ومن جهة أخرى فإن ما استشكله عمرو بن ميمون رحمه الله هو أمر بن مسعود رضي الله عنه له بصلاة الفريضة بغير جماعة، فحسب ذلك مخالفا للأمر بلزوم الجماعة. فأعلمه ابن مسعود رضي الله عنه أن الجماعة هي ما وافق الحق. مع العلم أن الحق في زمن يؤخر فيه الولاة الصلاة عن وقتها المختار، هو صلاة الفريضة في وقتها. عن أبي ذر رضي الله عنه قال: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ: كَيْفَ أَنْتَ إِذَا كَانَتْ عَلَيْكَ أُمَرَاءُ يُؤَخِّرُونَ الصَّلَاةَ عَنْ وَقْتِهَا أَوْ يُمِيتُونَ الصَّلاةَ عَنْ وَقْتِهَا قَالَ قُلْتُ فَمَا تَأْمُرُنِي قَالَ صَلِّ الصَّلاةَ لِوَقْتِهَا فَإِنْ أَدْرَكْتَهَا مَعَهُمْ فَصَلِّ فَإِنَّهَا لَكَ نَافِلَةٌ. والمراد بتأخيرها عن وقتها، أي عن وقتها المختار، وليس المراد إخراجها عن وقتها بالكلية.

فالعجيب أنهم يستدلون بقول ابن مسعود الذي جعلوه قرطاسا يبدونه، ويخفون كثيرا من الأحاديث الآمرة بالجماعة، والأعجب من ذلك أنهم ليسوا فردا واحدا، بل هم مجموعة أو مجموعات يشتركون في نفس المنهج القائم على ترك الجماعة والإمامة. بينما الحديث يقول لو كنت وحدك، وهم ليسوا لوحدهم. فما أبعد ما استدلوا به عليه من مراد الله ورسوله وحال الصحابة رضوان الله عليهم. 

وليس هذا نهاية العجب، بل يقول كل واحد منهم عن نفسه " أنا معتزل " مستدلا بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم لحذيفة: تَلْزَمُ جَمَاعَةَ المُسْلِمِينَ وإمَامَهُمْ. قَال قُلتُ: فإنْ لَمْ يَكُنْ لهمْ جَمَاعَةٌ ولَا إمَامٌ؟ قالَ فَاعْتَزِلْ تِلكَ الفِرَقَ كُلَّهَا، ولو أَنْ تَعَضَّ بأَصْلِ شَجَرَةٍ، حتَّى يُدْرِكَكَ المَوْتُ وأَنْتَ علَى ذلكَ. رواه البخاري ومسلم

ولكن المسلمين أولى بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي فيه مسائل:
١. الأمر بلزوم جماعة المسلمين وإمامهم 
٢. الإخبار عن إمكان عدم وجود الجماعة 
٣. الأمر باعتزال الفرق إذا لم تكن جماعة 
٤. تجويز مفسدة الموت هروبا من مفسدة ترك الاعتزال
٥. بما أن من خشي الهلاك جاز له اتيان المحرم فترك اعتزال الفرق شرك لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يبح تركه ولو أدى الى الموت.
٦. الناس رجلان مسلم من الجماعة ومشرك من الفرق.
٧. لا يتحقق الكفر بالطاغوت إلا بمبايعة جماعة المسلمين وإمامهم حال وجودهم.

وإنما شرع رسول الله صلى الله عليه وسلم الاعتزال حين غياب الجماعة وأما مع وجود الجماعة فقد أمر بلزومها. والمعتزل الذي لا يجد جماعة المسلمين وإمامهم إن كان موافقا للجماعة في دينها ولو وجد الجماعة بايعها وكان بريئا من كل دين سواها، فإنه يكون على الإسلام والجماعة.

لكن يجب فهم معنى الاعتزال فهما صحيحا، فالاعتزال والاقامة بين ظهراني الكافرين لا يجتمعان لأن أحدهما نقيض الآخر. قال الله عز وجل: قَالَ أَرَاغِبٌ أَنتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ ۖ لَئِن لَّمْ تَنتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ ۖ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا. قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ ۖ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي ۖ إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا. وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَىٰ أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا. فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ ۖ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا. وقال سبحانه: وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنشُرْ لَكُمْ رَبُّكُم مِّن رَّحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُم مِّنْ أَمْرِكُم مِّرْفَقًا. بينما نحن نرى من حال من يدعي الاعتزال اليوم أنهم مقيمون بدار الكفر ولا يعتزلون أهلها كما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم.

 وأيضا فإن القول بصحة إسلام المقيم في دار الكفر ليس له إمام ولا جماعة، يلزم منه فرض إسلام أفراد آخرين على مثل ما هو عليه، ويلزم من ذلك أن يصلي هذا الفرد مع غيره من الأفراد ممن لا جماعة له ولا إمام. في حين أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم باعتزال من لا جماعة لهم ولا إمام وليس الصلاة معه وغيرها من أمور كالنكاح والتوارث والموالاة والخلة.

فإن قلتَ هذا أمر عسير، قلتُ هذا يبين أهمية الجماعة وقد كان السلف رحمهم الله يتعوذون من زمان لا يكون للناس فيه إمام. وفي البخاري: كانَ الرَّجُلُ فِيمَن قَبْلَكُمْ يُحْفَرُ له في الأرْضِ، فيُجْعَلُ فِيهِ، فيُجَاءُ بالمِنْشَارِ فيُوضَعُ علَى رَأْسِهِ فيُشَقُّ باثْنَتَيْنِ، وما يَصُدُّهُ ذلكَ عن دِينِهِ، ويُمْشَطُ بأَمْشَاطِ الحَدِيدِ ما دُونَ لَحْمِهِ مِن عَظْمٍ أَوْ عَصَبٍ، وما يَصُدُّهُ ذلكَ عن دِينِهِ. فالاعتزال تمسكا بالتوحيد وفرارا من الشرك أهون من هذا. وقد قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يُوشِكُ أَنْ يَكُونَ خَيْرَ مَالِ الْمُسْلِمِ غَنَمٌ يَتْبَعُ بِهَا شَعَفَ الْجِبَالِ وَمَوَاقِعَ الْقَطْرِ يَفِرُّ بِدِينِهِ مِنْ الْفِتَن. رواه البخاري

الجزء الثالث: شبهة الإمام الممكن.
هناك من يقول جماعة المسلمين وإمامهم المأمور بها في الحديث يشترط فيها التمكين. فيقال له: ما هو الدليل على اشتراط التمكين؟ وكيف قيدت مطلقا بغير دليل؟ علما أن الأنبياء لم يكونوا ممكنين في أقوامهم، مثل نوح وهود وصالح وإبراهيم ولوط وعيسى عليهم السلام. ورسول الله صلى الله عليه وسلم لم يبعث ممكنا، ولكنه أقام الجماعة ثلاثة عشر سنة قبل الهجرة إلى المدينة، حيث أقام دار الإسلام بعد أن بايعه الأنصار على الإسلام وعلى النصرة. فلو لم يكن هناك إمام وجماعة ودعوة وبيعة على الإسلام وعلى النصرة، كيف سيحصل التمكين؟ قال الله: وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ. 

فقد كان المسلمون جماعة وهم مستضعفون وكانوا يدعون الناس إلى دخول الإسلام بمبايعة رسول الله صلى الله عليه وسلم، إمام المسلمين حينئذ، على التوحيد. والرسل دعوا الناس إلى بيعة التوحيد قبل التمكين. فإن الغاية هي عبادة الله وحده والكفر بما عبد دونه، وعبادة الله وحده لا يشترط فيها التمكين، بل التوحيد هو الذي يشترط للتمكين وما جعل التمكين إلا ليعبد الله وحده. قال جل ثناءه: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّلذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَىٰ لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا ۚ يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا ۚ وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَٰلِكَ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ.

فإن قيل هذا حكمه خاص بالأنبياء، قيل له ما دليل التخصيص؟ فالأصل أن الله تعالى أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين وقال جل ثناؤه: "لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا". فهذا أمر عام بالـتأسي برسول الله صلى الله عليه وسلم في كل شيء ولا يخرج من هذا العموم الا ما دل دليل خاص على تخصيصه برسول الله صلى الله عليه وسلم. كما أن رسول الله أمر الصحابة الذين كانوا من خارج مكة وبايعوه على الإسلام، فإنه أمرهم بإنذار قومهم ودعوتهم إلى الجماعة ولم يكن لهؤلاء الصحابة تمكين إذ دعوا أقوامهم إلى الجماعة والبيعة. وكذلك نعلم أن المهدي ليس نبيا ولكنه إمام يبايعه الناس قبل التمكين، وليس له عدد ولا عدة. "وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ". فتبين أن هذا الأمر ليس خاصا بالأنبياء بل هو أمر عام بالجماعة والإمامة لكل الناس قبل التمكين وبعد التمكين.

فإن قال الإمام يجب أن يبايعه أهل الحل والعقد. نسأله متى بدأ الإسلام بأهل الحل والعقد؟ وهل أهل الحل والعقد وجدوا قبل الأنبياء والرسل أم بعدهم؟ وهل واقعنا الذي نعيش فيه مشابه للعهد المدني فما بعده، الذي كانت فيه الجماعة المسلمة مكتملة الدين وفيها أهل الحل والعقد والمشورة حول الإمام، أم أنه مشابه للعهد المكي الذي كان فيه الناس في جاهلية، حتى دعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الإيمان بالله والكفر بما عبد سواه؟ فمن هم أهل الحل والعقد الذين بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ليكون إماما للمسلمين؟ وهل يوجد أهل حل وعقد في ديار الكفر؟ وإن لم يكن هناك إمام يدعو الناس من الجاهلية إلى الإسلام، من أين يأتي أهل الحل والعقد؟

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: بَدَأَ الإِسْلامُ غَرِيبًا، وَسَيَعُودُ كَمَا بَدَأَ غَرِيبًا، فَطُوبَى لِلْغُرَبَاء. رواه مسلم.

أفليس دوما ما كان الاسلام يبدأ برجل واحد أو رجلين أو ثلاثة وهم الرسل الأئمة المصطفون من الله عز وجل يدعون الناس لإتباعهم فهل يوجد طريق إلى إقامة الجماعة المسلمة إلا هاته الطريق؟ قال الله تعالى: " إن إبراهيم كان أمة " " و من يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه " " لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة " " و قال الذي آمن يا قوم اتبعون أهدكم سبيل الرشاد " " قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا و من اتبعني و سبحان الله و ما أنا من المشركين " " و اضرب لهم مثلا أصحاب القرية إذ جاءها المرسلون . إذ أرسلنا إليهم اثنين فكذبوهما فعززنا بثالث فقالوا إنا إليكم مرسلون ".

فالإسلام إذا لا بد أن يتمثل في رجل أو مجموعة من الناس تكون فرقان ما بين التوحيد والشرك، ولا بد لذلك الرجل وتلك الجماعة من دعوة الناس إلى اتباعهم فيكونوا بذلك أئمة في طريق الخير. قال جل ثناؤه: وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ

الجزء الرابع: شبهة انتظار المهدي.
من الشبه المنتشرة قول القائل أنا أنتظر ظهور المهدي. فيقال له أين أمرت بانتظار المهدي؟ لو كان انتظار المهدي مأمورا به لما بايع المسلمون أبا بكر وعمر وعثمان وعلي، ولم يكن لهم دعوة ولا جهاد ولا فتوحات. فهل تزعم أنك أعلم بدين الله أم الصحابة رضوان الله عليهم؟  وهل بعث رسول بعد زمانهم لينسخ شريعة محمد صلى الله عليه وسلم، فيأمر الناس بترك الجماعة وانتظار المهدي؟ متى كان جائزا نسخ الشريعة بالأهواء والبدع والضلالات؟ وهل تعلم الإمام المهدي يتبع شرع رسول الله أم يأتي بشرع من عنده؟ فإن قلت يحكم بالكتاب والسنة. قلت إنه يبايع بالإمامة لأن البيعة والإمامة في الكتاب والسنة، وهذا ديننا الذي ندين به. وإن قلت يأتي بشيء من عنده، قلت لعلك تنتظر المسيح الدجال وليس المهدي، وما يدريك أن المهدي لو خرج عاديته وقاتلته.

فإن قال هل تزعم أنك أنت المهدي؟ قلت لست أنا المهدي، وهذا ليس زمن المهدي. فقد روى أحمد عن حُذَيْفَة قال : قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : تَكُونُ النُّبُوَّةُ فِيكُمْ مَا شَاءَ اللهُ أَنْ تَكُونَ ، ثُمَّ يَرْفَعُهَا إِذَا شَاءَ أَنْ يَرْفَعَهَا ، ثُمَّ تَكُونُ خِلَافَةٌ عَلَى مِنْهَاجِ النُّبُوَّةِ ، فَتَكُونُ مَا شَاءَ اللهُ أَنْ تَكُونَ ، ثُمَّ يَرْفَعُهَا إِذَا شَاءَ اللهُ أَنْ يَرْفَعَهَا ، ثُمَّ تَكُونُ مُلْكًا عَاضًّا، فَيَكُونُ مَا شَاءَ اللهُ أَنْ يَكُونَ ، ثُمَّ يَرْفَعُهَا إِذَا شَاءَ أَنْ يَرْفَعَهَا، ثُمَّ تَكُونُ مُلْكًا جَبْرِيَّةً ، فَتَكُونُ مَا شَاءَ اللهُ أَنْ تَكُونَ ، ثُمَّ يَرْفَعُهَا إِذَا شَاءَ أَنْ يَرْفَعَهَا ، ثُمَّ تَكُونُ خِلَافَةً عَلَى مِنْهَاجِ نُبُوَّةٍ. ثُمَّ سَكَت. وروى أحمد والترمذي وحسنه، عن سعيد بن جُهمان عَنْ سَفِينَةَ مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: الْخِلَافَةُ ثَلَاثُونَ عَامًا، ثُمَّ يَكُونُ بَعْدَ ذَلِكَ الْمُلْكُ. قَالَ سَفِينَةُ رضي الله عنه: " أَمْسِكْ: خِلَافَةَ أَبِي بَكْرٍ سَنَتَيْنِ، وَخِلَافَةَ عُمَرَ عَشْرَ سِنِينَ، وَخِلَافَةَ عُثْمَانَ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ سَنَةً، وَخِلَافَةَ عَلِيٍّ سِتَّ سِنِينَ ". وروى البخاري ومسلم عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ قَالَ دَخَلْتُ مَعَ أَبِي عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: إِنَّ هَذَا الْأَمْرَ لَا يَنْقَضِي حَتَّى يَمْضِيَ فِيهِمْ اثْنَا عَشَرَ خَلِيفَةً. قَالَ: ثُمَّ تَكَلَّمَ بِكَلَامٍ خَفِيَ عَلَيَّ. قَالَ: فَقُلْتُ لِأَبِي: مَا قَالَ؟ قَالَ: كُلُّهُمْ مِنْ قُرَيْشٍ. 

فعلى هذَا يكون بقي من الخلفاء ثمانية بعد أبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم أو سبعة باعتبار أيام الحسن بن علي رضي الله عنه، فقد ولي أمر المسلمين وبويع بالخلافة بعد وفاة أبيه لمدة ستة أشهر تقريبا، ثم أصلح الله به بين طائفتي العراق والشام. وكان بعده ملك معاوية رضي الله عنه الذي ورث منه الملك ابنه يزيد بن معاوية، فكان الملك كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم. وعلى هذَا التفصيل يكون بقي ستة من الخلفاء بينهم خلافة المهدي. فعند أبي داود وأحمد: يكون اختلاف عند موت خليفة، الحديث. وعند ابن ماجه: يقتتل عند كنزكم ثلاثة كلهم ابن خليفة، ثم لا يصير إلى واحد منهم، ثم تطلع الرايات السود من قبل المشرق، فيقتلونكم قتلاً لم يقتله قوم ثم ذكر شيئاً لا أحفظه، فقال فإذا رأيتموه فبايعوه ولو حبواً على الثلج، فإنه خليفة الله المهدي. وبعد الخليفة الثاني عشر سيلي أمر المسلمين نبي الله عيسى ابن مريم عليه السلام بعد نزوله من السماء وقتله الدجال. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: والذي نفسي بيده ليوشكن أن ينزل فيكم ابن مريم حكما مقسطا، فيكسر الصليب، ويقتل الخنزير، ويضع الجزية، ويفيض المال حتى لا يقبله أحد. رواه البخاري مسلم.

فصل سادس: تسمية المسلمين.

بينا في الفصول الماضية ولله الحمد أن الجماعة من مقتضيات التوحيد، وأنه لا طريق للتمكين بغير توحيد وإمام وبيعة وجماعة. وبينا أن ترك الجماعة بدعة مكفرة ناقضة للإسلام، وأن الفرق الاثنتين وسبعين من هذِه الأمة كلها فرق مشركة خالدة في النار، وفرقة واحدة خالدة في الجنة، هي جماعة المسلمين وإمامهم. وبينا أن شبه المخالفين لجماعة المسلمين عبارة عن أوهام لا مستند لها من الكتاب والسنة، وأن أصحابها يقيدون ويخصصون ويفسرون بما يوافق الأهواء والظنون. ونخصص هذا الفصل بإذن الله لبيان ما يتعلق بتسمية المسلمين.

فقد روى البخاري ومسلم عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بن مسعود رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ يَجِيءُ أَقْوَامٌ تَسْبِقُ شَهَادَةُ أَحَدِهِمْ يَمِينَهُ، وَيَمِينُهُ شَهَادَتَهُ. فهذه القرون الثلاثة الأولى، المشهود لها بالإيمان والفضل، منها الصحابة والتابعون وتابعوا التابعين. فالصحابي من لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم مؤمنا به ومات على الإسلام، والتابعي من لقي الصحابي، وأتباع التابعين الذين لقوا التابعين. فسبيل المؤمنين وجماعة المسلمين هو اتباع هؤلاء السلف الصالحين بلا تبديل ولا تعديل...إذ ليس الإسلام منقسما إلى مناهج سلفية وأخرى ليست سلفية. بل الإسلام سلفي بطبعه، والسلف الصالح من الإسلام والإسلام من السلف الصالح. ولا وجود البتة لمسلمين غير سلفيين. 

لذلك فالجماعة في غنى عن ابتداع أسماء تميز المسلمين عن باقي الفرق والأحزاب والشيع، كتسمية (السلفية) أو (السلفية الجهادية) أو غيرها من المسميات التي اتخذها أصحابها ميزة عن باقي المسلمين في زعمهم. لكن الجماعة حسبُها ما سماها به أبوها إبراهيم عليه السلام: "هو سماكم المسلمين من قبل". وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: آمركُم بخمسٍ اللهُ أمرنِي بهنَّ: السمعُ والطاعةُ والجهادُ والهجرةُ والجماعةُ، فإنه من فارقَ الجماعةَ قيدَ شبرٍ، فقد خلعَ ربقةَ الإسلامِ من عنقهِ إلا أن يُرَاجعَ. ومن ادّعَى دعوى الجاهليةِ، فإنه من جَثْىِ جهنمَ، فقال رجلٌ: يا رسولَ اللهِ وإن صلّى وصامَ؟ فقال: وإن صلّى وصامَ. فادعوا بدعْوى اللهِ الذي سماكُم المسلمينَ المؤمنينَ عبادَ اللهِ.

فتسمية المسلمين مسلمين، قد تضمنت كل المعاني التي تميز المسلم عن غيره، من التزام بالسنة والجماعة ومنهج السلف الصالحين، مع ما يقتضيه ذلك من تحريم لطرق البدعة والضلال. أما من لم تكن هاته حاله فإنه لا يشترك مع المسلمين في تسميتهم.

فصل سابع: في كون الأمة أمتان.

الأولى، أمة إجابة واتباع ... وهي جماعة المسلمين وإمامهم وهي الأمة المذكورة في قوله تعالى: "كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله ولو آمن أهل الكتاب لكان خيرا لهم منهم المؤمنون وأكثرهم الفاسقون". والذين لا يزالون ظاهرين إلى حين نزول عيسى عليه السلام هم أهل الجماعة في الخلافة الثانية.  ففي صحيح مسلم: لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي يُقَاتِلُونَ عَلَى الْحَقِّ ظَاهِرِينَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. قَالَ : فَيَنْزِلُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَيَقُولُ أَمِيرُهُمْ : تَعَالَ صَلِّ لَنَا، فَيَقُولُ : لَا، إِنَّ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ أُمَرَاءُ، تَكْرِمَةَ اللَّهِ هَذِهِ الْأُمَّةَ.

والأمة الثانية، تشمل الجماعة ومعها أمة الدعوى والابتداع ... الذين يقال لهم عند الحوض سحقا سحقا، كما أخبر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم: إني فرطكم على الحوض، من مر علي شرب ومن شرب لم يظمأ أبدا. ليردن علي أقوام أعرفهم ويعرفوني، ثم يحال بيني وبينهم، فأقول: إنهم مني، فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك، فأقول: سحقا سحقا لمن غير بعدي. رواه البخاري ومسلم. فيتبرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم من هؤلاء المحدثين المبدلين، ولا يشفع لهم فشفاعته خاصة بالمسلمين الموحدين. 

والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات. الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك. الحمد لله رب العالمين.

وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ۚ ذَٰلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ
 

جماعة المسلمين وإمامهم

البريد الإلكتروني: Imamabounacer@gmail.com

الهاتف : 00212661707896

  • بيعة الإسلام لله
  • جماعة المسلمين وإمامهم
  • Telegram
  • الصفحة الرسمية على فيسبوك
  • وتساب
bottom of page