الشريعة الخاتمة
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله ولي المتقين وصلى الله وسلم على محمد خاتم الأنبياء والمرسلين. إن خير الكلام كلام الله وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار. وبعد،
لا يخفى عليكم معشر القراء والمستمعين، ما يروجه أهل الزيغ والضلال منتحلو العلمنة والتنوير والحداثة من مزاعم واهية يدعون من خلالها إمكانية تجاوز النصوص الشرعية وتعطيلها ومصادرة المذاهب الفقهية وإنشاء تفاسير وأحكام وتشريعات مستحدثة تكون موافقة، حسب زعمهم، للتحولات المجتمعية الحاصلة بخلاف المذاهب المأخوذة عن السلف والمستنبطة من نصوص الكتاب والسنة والتي يؤمن هؤلاء القوم بأنها صارت متجاوزة وغير مسايرة للزمان، وذلك تحت يافطات مختلفة كتجديد النص، وتنقيح التراث، وعصرنة الحقل الديني.
ومعالجة هذه الشبه المظلمة يتطلب منا الرد عليها بحجج بالغة وقذفها بحق ضامغ ذي أصول عريقة ثابتة وفروع مثمرة تؤتي أكلها كل حين وزمان الشيء الذي يستدعي سعة الصدر وشساعة الأفق وبسطة في العلم واطلاعا دائما وصلة مستمرة بكتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم وآثار السلف رحمة الله عليهم.
وإنما أوجبنا ما أوجبناه لرد هاته النظرية اعتبارا لخلفية هاته الأقوال المستمدة من المنظومات الفكرية القريبة من الأوساط الإلحادية واللادينية، علما أن هذا الاختيار العقدي والديني لا يعتمد بالأساس على اجتهادات فردية وتوجهات شعبوية بقدر ما يحظى بدعم وتشجيع قوى كبرى في العالم على رأسها الصهيونية العالمية والتيار الفرنكفوني والقانون والمواثيق الدولية والرأسمالية العالمية والبنك الدولي. مما يجعل أقوال القائلين بها من الناس مسيجة بسياج العناية الدولية والعدد والعدة الإمبرياليين ويجعل أصحابها كلاب حراسة مذللين للمعسكر الغربي الصهيو-صليبي وامتدادا جيو-ستراتيجيا للاستعمار الفكري والهيمنة الاقتصادية والاحتكار التشريعي لهم.
والمعلوم عندنا من الدين بالضرورة أن الأنبياء دينهم واحد وشرائعهم شتى وأن شرع من قبلنا ليس شرعا لنا وأن خاتم الأنبياء والمرسلين هو محمد صلى الله عليه وسلم.
وَأَنزَلۡنَاۤ إِلَیۡكَ ٱلۡكِتَـٰبَ بِٱلۡحَقِّ مُصَدِّقا لِّمَا بَیۡنَ یَدَیۡهِ مِنَ ٱلۡكِتَـٰبِ وَمُهَیۡمِنًا عَلَیۡهِۖ فَٱحۡكُم بَیۡنَهُم بِمَاۤ أَنزَلَ ٱللَّهُۖ وَلَا تَتَّبِعۡ أَهۡوَاۤءَهُمۡ عَمَّا جَاۤءَكَ مِنَ ٱلۡحَقِّۚ لِكُلّ جَعَلۡنَا مِنكُمۡ شِرۡعَة وَمِنۡهَاجاۚ وَلَوۡ شَاۤءَ ٱللَّهُ لَجَعَلَكُمۡ أُمَّة وَ احِدَة وَلَـٰكِن لِّیَبۡلُوَكُمۡ فِی مَاۤ ءَاتَىٰكُمۡۖ فَٱسۡتَبِقُوا۟ ٱلۡخَیۡرَاتِۚ إِلَى ٱللَّهِ مَرۡجِعُكُمۡ جَمِیعا فَیُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمۡ فِیهِ تَخۡتَلِفُونَ﴾
وإنما قيل:"ومصدّقًا لما بين يديّ من التوراة"، لأن عيسى صلوات الله عليه، كان مؤمنًا بالتوراة مقرًا بها، وأنها من عند الله. وكذلك الأنبياء كلهم، يصدّقون بكل ما كان قبلهم من كتب الله ورسله، وإن اختلف بعضُ شرائع أحكامهم، لمخالفة الله بينهم في ذلك. مع أنّ عيسى كان - فيما بلغنا - عاملا بالتوراة لم يخالف شيئًا من أحكامها، إلا ما خفَّف الله عن أهلها في الإنجيل، مما كان مشددًا عليهم فيها،
عن وهب بن منبه يقول: إن عيسى كان على شريعة موسى ﷺ، وكانَ يسبِت، ويستقبل بيت المقدس، فقال لبني إسرائيل: إني لم أدعكم إلى خلاف حرف مما في التوراة، إلا لأحل لكم بعض الذي حرم عليكم، وأضع عنكم من الآصار ﴿وَمُصَدِّقا لِّمَا بَیۡنَ یَدَیَّ مِنَ ٱلتَّوۡرَىٰةِ وَلِأُحِلَّ لَكُم بَعۡضَ ٱلَّذِی حُرِّمَ عَلَیۡكُمۡۚ وَجِئۡتُكُم بِـَٔایَة مِّن رَّبِّكُمۡ فَٱتَّقُوا۟ ٱللَّهَ وَأَطِیعُونِ ٥٠ إِنَّ ٱللَّهَ رَبِّی وَرَبُّكُمۡ فَٱعۡبُدُوهُۚ هَـٰذَا صِرَاط مُّسۡتَقِیم ٥١﴾#
فليس أحد من الأنبياء سلام الله عليهم إلا وهو مسلم حنيف موحد لله مؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره. ولكن تختلف شرائع الرسل في الفرائض كهيأة الصلاة وميقات الصوم ومقدار الزكاة وأحكام ما أحل الله وما حرم من النكاح والطعام والشراب واللباس والحدود والقول والعمل.
ومن الأمثلة على ذلك إباحة زواج بني آدم من أخواتهم وركوب السفينة زمن نوح عليه السلام وجمع يعقوب بين الأختين وتحريم الله على بني إسرائيل ما حرم أبوهم يعقوب على نفسه وإباحة سجود التحية والتكريم زمن يوسف وتحريم العمل والصيد يوم السبت والشحوم في شريعة موسى وإباحة شرعه زواج داود وسليمان عليهما السلام مائة امرأة وجواز الرهبانية وترك الزواج في شريعة عيسى وذلك كله خلاف شريعة محمد عليه وعلى الأنبياء من قبله أفضل الصلاة والسلام.
فهذه الشرائع وأما الدين والملة فواحدة كما قال تعالى:
۞ شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّىٰ بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىٰ وَعِيسَىٰ ۖ أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ ۚ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ ۚ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ
۞مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَٰكِن كَانَ حَنِيفًا مُّسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ
۞مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ ۚ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَٰذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ ۚ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ ۖ فَنِعْمَ الْمَوْلَىٰ وَنِعْمَ النَّصِيرُ
عن قتادة قوله: "لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجًا" يقول: سبيلا وسُنّة. والسنن مختلفة: للتوراة شريعة، وللإنجيل شريعة، وللقرآن شريعة، يحلُّ الله فيها ما يشاء، ويحرِّم ما يشاء بلاءً، ليعلم من يطيعه ممن يعصيه. ولكن الدين الواحد الذي لا يقبل غيره: التوحيدُ والإخلاصُ لله، الذي جاءت به الرسل.#
فأظهرت الأدلة لمن كان ذا إذعان لما أنزل الله ولم يكن على سمعه وقر وعلى بصره غشاوة وعلى قلوبهم أقفالها، أن التحريم والتحليل من الله لا يكون إلا برسول - وَلِأُحِلَّ لَكُم بَعۡضَ ٱلَّذِی حُرِّمَ عَلَیۡكُمۡۚ – وقد بعث الله تعالى إمام المرسلين عليه الصلاة والسلام بخير الكتب ومعه الشريعة الكونية التي لا شرع بعدها ولا قانون فوقها - الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا – عن عمر بن الخطاب أنَّ رَجُلًا، مِنَ اليَهُودِ قالَ له: يا أمِيرَ المُؤْمِنِينَ، آيَةٌ في كِتَابِكُمْ تَقْرَؤُونَهَا، لو عَلَيْنَا مَعْشَرَ اليَهُودِ نَزَلَتْ، لَاتَّخَذْنَا ذلكَ اليومَ عِيدًا. قالَ: أيُّ آيَةٍ؟ قالَ: {اليومَ أكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وأَتْمَمْتُ علَيْكُم نِعْمَتي ورَضِيتُ لَكُمُ الإسْلَامَ دِينًا} قالَ عُمَرُ: قدْ عَرَفْنَا ذلكَ اليَومَ، والمَكانَ الذي نَزَلَتْ فيه علَى النبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وهو قَائِمٌ بعَرَفَةَ يَومَ جُمُعَةٍ. رواه البخاري ومسلم.
وقيل لسلمانَ : قَدْ عَلَّمَكُمْ نبيُّكم صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ كلَّ شيءٍ ، حتى الخِرَاءَةَ ؟ فقال سلمانُ : أجلْ ، نهانا أنْ نستقبلَ القبلةَ بغائِطٍ أوْ بولٍ ، أوْ أنْ نستنجيَ باليمينِ ، أوْ أنْ يستنجيَ أحدُنا بأقَلَّ منْ ثلاثةِ أحجارٍ ، أوْ نستنجيَ برجيعٍ أوْ بعظمٍ. رواه مسلم وأصحاب السنن.
فكيف لقائل أن يقول بعد هذا، وهو ينسب نفسه إلى الملة الإبراهيمية والشريعة المحمدية أن يزعم بأن شريعة محمد صلى الله عليه وسلم غير صالحة لهذا الزمان. وهل يكون له الشجاعة للإفصاح عن جوهر مقولته فيتهم الله جل ثناؤه بجهل حقيقة هذا الزمان وما يصلح له من تشريع، سبحانه عما يشركون وتعالى عما يقولون، فإنه علام الغيوب ولا يكون حال ولا زمان ولا مكان إلا بأمره وعلمه ومشيئته وما كان سبحانه لينشئ زمانا غير صالح لشريعته، فهو موجد الزمان والمكان والذرية والأقوام. قوله تعالى: ﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الْغَيْبِ لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ﴾.
ولو قدر جل ثناؤه زمانا لا يصلح لشريعة محمد لبعث لذلك الزمان رسولا يبين للناس شرائعه وشعائره والسنة الواجبة عليهم فيه، وذلك على الله هين كما بعث في كل زمان رسلا يبينون للناس شريعة ربهم الصالحة لزمانهم، فإنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون. ولكن الأمر ليس كما زعمتم أيها الجاهلون فإنما كان محمد صلى الله عليه وسلم خاتم النبيئين والمرسلين لأن شريعته صالحة لآخر الزمان. قال تعالى: ﴿مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَاۤ أَحَد مِّن رِّجَالِكُمۡ وَلَـٰكِن رَّسُولَ ٱللَّهِ وَخَاتَمَ ٱلنَّبِیِّـۧنَۗ وَكَانَ ٱللَّهُ بِكُلِّ شَیۡءٍ عَلِیما﴾.
ولكن الظانين بربهم ظن السوء هم الغافلون المفسدون الذين لا يشعرون وقد قدر الله عليهم الشقاء وأوجب لهم النار وحرم عليهم الجنة فلن يكونوا صالحين لاتباع شرعه ولا نيل مرضاته - وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ -.
وليست هاته الطائفة المنتحلة للحداثة منفردة بالجهالة والغفلة وحدها ولكن معها طوائف منتحلة للمحافظة على التراث والدفاع عن السنة والسلف والشريعة - إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ - فالقوم جميعا هم حملة الأسفار الذين وصف الله وصفهم فلا فرق بينهم وبين أهل الكتاب قبلهم. القول في تأويل قوله تعالى: ﴿مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ﴾
يقول تعالى ذكره: مثل الذين أوتوا التوراة من اليهود والنصارى، فحملوا العمل بها ﴿ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا﴾ يقول: ثم لم يعملوا بما فيها، وكذّبوا بمحمد ﷺ، وقد أمروا بالإيمان به فيها واتباعه والتصديق به ﴿كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا﴾ يقول: كمثل الحمار يحمل على ظهره كتبًا من كتب العلم، لا ينتفع بها، ولا يعقل ما فيها، فكذلك الذين أوتوا التوراة التي فيها بيان أمر محمد ﷺ مثلهم إذا لم ينتفعوا بما فيها، كمثل الحمار الذي يحمل أسفارًا فيها علم، فهو لا يعقلها ولا ينتفع بها.
وعسى قائلا أن يقول ما هاته بأخلاق المؤمن - لَمْ يَكُنِ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ سَبَّابًا، ولَا فَحَّاشًا، ولَا لَعَّانًا، كانَ يقولُ لأحَدِنَا عِنْدَ المَعْتِبَةِ: ما له تَرِبَ جَبِينُهُ – فالجواب : َإِنِّي لأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا. يقول: إني لأظنك يا فرعون ملعونا ممنوعا من الخير. والجواب: لعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَىٰ لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ۚ ذَٰلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُوا يَعْتَدُونَ. والجواب: قالَ رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ في مَرَضِهِ الذي لَمْ يَقُمْ منه: لَعَنَ اللَّهُ اليَهُودَ والنَّصَارَى، اتَّخَذُوا قُبُورَ أنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ
والجواب أن الله تعالى أنزل على رسوله صلى الله عليه وسلم لعن المشركين واليهود والنصارى ووصفهم بالجهل والغفلة والسفاهة وشبههم بالقردة والخنازير والكلاب والحمير والأنعام والدواب وقد أمر سبحانه نبيه عليه السلام بتبليغ الرسالة فكان المسلمون يتعلمون حقيقة المشركين وأوصافهم فيحذروا صنيعهم. وكان من ذلك ما يبلغ أهل الشرك والضلال فيكون لهم رادعا ولغرورهم مانعا وللتائبين منهم دواءا ولصدور المؤمنين شفاءا.
ورجوعا إلى الموضوع الأصلي، وهو قولهم أن الشريعة غير صالحة لهذا الزمان فالجواب على ذلك ما يزال في بدايته والأدلة عليه أكبر من حصرها في هذه الموضع.
وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ ۚ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى لَّقُضِيَ بَيْنَهُمْ ۚ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِن بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مُرِيبٍ
قال الطبري رحمه الله: قوله: ﴿وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ﴾
يقول: وإن الذين أتاهم الله من بعد هؤلاء المختلفين في الحقّ كتابه التوراة والإنجيل. ﴿لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ﴾ يقول: لفي شكّ من الدين الذين وصّى الله به نوحا، وأوحاه إليك يا محمد، وأمركما بإقامته مريب.
عن السديّ بسنده، قوله: ﴿وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ﴾ قال: اليهود والنصارى.#
فقد ذم تعالى جميع المرتابين في الكتاب والتاركين لتحليل ما أحل الله وتحريم ما حرم وجميع المخالفين لشرعه من دون استثناء لمن تلبس بشبه الحداثيين أو غيرهم، إذ جاءت هذه الآية عقيب قوله تعالى: شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّىٰ بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىٰ وَعِيسَىٰ ۖ أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ
الطبري عن قتادة بسنده، قوله: شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا. بعث نوح حين بعث بالشريعة بتحليل الحلال, وتحريم الحرام.
قال: وعنى بقوله: أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ. أن اعملوا به على ما شرع لكم وفرض.#
والمعنى أن الذين أورثوا الكتاب لم يقيموا الدين بتحريم الحرام وتحليل الحلال. نظير ما يقع في هذا الزمان. بينما كان الواجب على هؤلاء الخلف الوارثين الكتاب أن يعملوا بشريعة نبيهم من غير تبديل وتعديل. وهذا ما جاء بيانه في مواضع من الكتاب.
قوله تعالى:
۞ فَخَلَفَ مِنۢ بَعۡدِهِمۡ خَلۡف وَرِثُوا۟ ٱلۡكِتَـٰبَ یَأۡخُذُونَ عَرَضَ هَـٰذَا ٱلۡأَدۡنَىٰ وَیَقُولُونَ سَیُغۡفَرُ لَنَا وَإِن یَأۡتِهِمۡ عَرَض مِّثۡلُهُۥ یَأۡخُذُوهُۚ أَلَمۡ یُؤۡخَذۡ عَلَیۡهِم مِّیثَـٰقُ ٱلۡكِتَـٰبِ أَن لَّا یَقُولُوا۟ عَلَى ٱللَّهِ إِلَّا ٱلۡحَقَّ وَدَرَسُوا۟ مَا فِیهِۗ وَٱلدَّارُ ٱلۡـَٔاخِرَةُ خَیۡر لِّلَّذِینَ یَتَّقُونَۚ أَفَلَا تَعۡقِلُونَ
القول في تأويل قوله: ﴿فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: فخلف من بعد هؤلاء القوم الذين وصف صفتهم "خلف" يعني: خَلف سوء. يقول: حدث بعدهم وخلافَهم، وتبدل منهم، بَدَلُ سَوْءٍ.
فتأويل الكلام: فتبدَّل من بعدهم بَدَل سوء، ورثوا كتاب الله فَعُلِّموه، وضيعوا العمل به، فخالفوا حكمه، يُرْشَون في حكم الله، فيأخذون الرشوة فيه من عَرَض هذا العاجل "الأدنى"، يعني ب"الأدنى": الأقرب من الآجل الأبعد. ويقولون إذا فعلوا ذلك: إن الله سيغفر لنا ذنوبنا، تمنِّيًا على الله الأباطيل، كما قال جل ثناؤه فيهم: ﴿فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ﴾ ، "وإن يأتهم عرض مثله يأخذوه"، يقول: وإن شرع لهم ذنبٌ حرامٌ مثله من الرشوة بعد ذلك، أخذوه واستحلوه ولم يرتدعوا عنه. يخبر جل ثناؤه عنهم أنهم أهل إصرار على ذنُوبهم، وليسوا بأهل إنابة ولا تَوْبة.
عن سعيد بن جبير قال: يعملون الذنب، ثم يستغفرون الله، فإن عرض ذلك الذنب أخذوه.
عن مجاهد قال: ما أشرف لهم من شيء في اليوم من الدنيا حلالٌ أو حرام يشتهونه أخذوه، ويبتغون المغفرة، فإن يجدوا الغد مثلَه يأخذوه.
عن قتادة قوله: "فخلف من بعدهم خلف"، إي والله، لَخَلْفُ سَوْء ورِثوا الكتابَ بعد أنبيائهم ورسلهم، ورَّثهم الله وَعهِد إليهم، وقال الله في آية أخرى: ﴿فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ﴾ ، قال: "يأخذون عرض هذا الأدنى ويقولون سيغفر لنا"، تمنوا على الله أمانيّ، وغِرّةٌ يغتَرُّون بها. "وإن يأتهم عرض مثله"، لا يشغلهم شيء عن شيء ولا ينهاهم عن ذلك، كلما أشرف لهم شيء من الدنيا أكلوه، لا يبالون حلالا كان أو حرامًا.
عن ابن عباس يقول: يأخذون ما أصابوا ويتركون ما شاءوا من حلال أو حرام، ويقولون: "سيغفر لنا".
قال ابن زيد في قوله: "يأخذون عرض هذا الأدنى"، قال: الكتاب الذي كتبوه "ويقولون سيغفر لنا"، لا نشرك بالله شيئًا "وإن يأتهم عرض مثله يأخذوه"، يأتهم المحقّ برشوة فيخرجوا له كتاب الله، ثم يحكموا له بالرشوة. وكان الظالم إذا جاءهم برشوة أخرجوا له "المثنّاة"، وهو الكتاب الذي كتبوه، فحكموا له بما في "المثنّاة"، بالرشوة، فهو فيها محق، وهو في التوراة ظالم، فقال الله: ﴿أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلا الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ﴾ .
وأما قوله: "ودرسوا ما فيه" قرأوا ما فيه. يقول: ورثوا الكتاب فعلموا ما فيه ودرسوه، فضيعوه وتركوا العمل به، وخالفوا عهد الله إليهم في ذلك،
قال ابن زيد في قوله: "ودرسوا ما فيه"، قال: علّموه، علّموا ما في الكتاب الذي ذكر الله، وقرأ: ﴿بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ﴾ ،
قال أبو جعفر: "والدار الآخرة خير للذين يتقون"، يقول جل ثناؤه: وما في الدار الآخرة، وهو ما في المعادِ عند الله مما أعدّ لأوليائه والعاملين بما أنزل في كتابه، المحافظين على حدوده"خير للذين يتقون الله"، ويخافون عقابه، فيراقبونه في أمره ونهيه، ويطيعونه في ذلك كله في دنياهم "أفلا يعقلون"، يقول: أفلا يعقل هؤلاء الذين يأخذون عرض هذا الأدنى على أحكامهم، ويقولون: "سيغفر لنا"، أنَّ ما عند الله في الدار الآخرة للمتقين العادِلين بين الناس في أحكامهم، خير من هذا العرض القليل الذي يستعجلونه في الدنيا على خلافِ أمر الله، والقضاء بين الناس بالجور؟
قوله تعالى:
۞ فَخَلَفَ مِنۢ بَعۡدِهِمۡ خَلۡفٌ أَضَاعُوا۟ ٱلصَّلَوٰةَ وَٱتَّبَعُوا۟ ٱلشَّهَوَ اتِۖ فَسَوۡفَ یَلۡقَوۡنَ غَیًّا
يقول تعالى ذكره: فحدث من بعد هؤلاء الذين ذكرت من الأنبياء الذين أنعمت عليهم، ووصفت صفتهم في هذه السورة، خلْف سوء في الأرض أضاعوا الصلاة.
قال أبو جعفر: إضاعتهموها تركهم إياها لدلالة قول الله تعالى ذكره بعده على أن ذلك كذلك، وذلك قوله جلّ ثناؤه ﴿إِلا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا﴾ فلو كان الذين وصفهم بأنهم ضيعوها مؤمنين لم يستثن منهم من آمن، وهم مؤمنون ولكنهم كانوا كفارا لا يصلون لله، ولا يؤدّون له فريضة فسقة قد آثروا شهوات أنفسهم على طاعة الله، وقد قيل: إن الذين وصفهم الله بهذه الصفة قوم من هذه الأمة يكونون في آخر الزمان.
عن مجاهد بسنده، قوله ﴿فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا﴾ قال: عند قيام الساعة، وذهاب صالحي أمة محمد ﷺ ينزو بعضهم على بعض في الأزقة. قال محمد بن عمرو: زنا. وقال الحارث: زناة.
عن عكرمة ومجاهد وعطاء بن أبي رباح ﴿فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ﴾ .... الآية، قال: هم أمة محمد.
عن أبي تميم بن مهاجر في قول الله: ﴿فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ﴾ قال: هم في هذه الأمة يتراكبون تراكب الأنعام والحمر في الطرق، لا يخافون الله في السماء، ولا يستحيون الناس في الأرض.
وأما قوله ﴿فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا﴾ فإنه يعني أن هؤلاء الخلْف الذين خلفوا بعد أولئك الذين أنعم الله عليهم من النبيين سيدخلون غيا، وهو اسم واد من أودية جهنم، أو اسم بئر من آبارها.
قوله تعالى:
وَمَن یُشَاقِقِ ٱلرَّسُولَ مِنۢ بَعۡدِ مَا تَبَیَّنَ لَهُ ٱلۡهُدَىٰ وَیَتَّبِعۡ غَیۡرَ سَبِیلِ ٱلۡمُؤۡمِنِینَ نُوَلِّهِۦ مَا تَوَلَّىٰ وَنُصۡلِهِۦ جَهَنَّمَۖ وَسَاۤءَتۡ مَصِیرًا﴾
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله:"ومن يشاقق الرسول"، ومن يباين الرسولَ محمدًا ﷺ، معاديًا له، فيفارقه على العداوة له "من بعد ما تبين له الهدى"، يعني: من بعد ما تبين له أنه رسول الله، وأن ما جاء به من عند الله يهدي إلى الحق وإلى طريق مستقيم "ويتبع غير سبيل المؤمنين"، يقول: ويتبع طريقًا غير طريق أهل التصديق، ويسلك منهاجًا غير منهاجهم، وذلك هو الكفر بالله، لأن الكفر بالله ورسوله غير سبيل المؤمنين وغير منهاجهم "نولّه ما تولّى"، يقول: نجعل ناصره ما استنصره واستعان به من الأوثان والأصنام، وهي لا تغنيه ولا تدفع عنه من عذاب الله شيئًا، ولا تنفعه،
عن مجاهد في قوله: "نوله ما تولى"، قال: من آلهة الباطل.
"ونصله جهنم"، يقول: ونجعله صِلاءَ نار جهنم، يعني: نحرقه بها. "وساءت مصيرًا"، يقول وساءت جهنم "مصيرًا"، موضعًا يصير إليه من صار إليه.#
فالآية القرآنية دليل على حتمية اتباع المؤمنين بالله ورسوله لمن مضى من المؤمنين وفي مقدمتهم الخلفاء والصحابة والتابعون. وهذا دليل على أن شريعتنا وشريعتهم واحدة.
ومن الأدلة القرآنية على استمرارية الشريعة المحمدية قوله تعالى: ﴿والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان﴾ فعم بالثناء المتبعين لهم دون استثناء زمان أو مكان.
قال ابن جرير رحمه الله: وأما الذين اتبعوا المهاجرين الأولين والأنصار بإحسان، فهم الذين أسلموا لله إسلامَهم، وسلكوا منهاجهم في الهجرة والنصرة وأعمال الخير.
عن محمد بن كعب قال: مرّ عمر برجل وهو يقرأ هذه الآية: ﴿والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان﴾ ، قال: من أقرأك هذه الآية؟قال: أقرأنيها أبيّ بن كعب. قال: لا تفارقْني حتى أذهب بك إليه! فأتاه فقال: أنت أقرأت هذا هذه الآية؟ قال: نعم! قال: وسمعتها من رسول الله ﷺ؟! قال: [نعم!] .لقد كنتُ أرانا رُفِعنا رَفْعَةً لا يبلُغها أحدٌ بعدنا! فقال أبيّ: تصديق ذلك في أول الآية التي في أول الجمعة،وأوسط الحشر، وآخر الأنفال. أما أول الجمعة: ﴿وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ﴾ ،، [سورة الجمعة: ٣] ، وأوسط الحشر: ﴿وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإيمَانِ﴾ ، [سورة الحشر: ١٠] ، وأما آخر الأنفال: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولَئِكَ مِنْكُمْ﴾ ، [سورة الأنفال: ٧٥] .
ومن الأدلة على ما ادعينا من ذلك، قوله: فإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنتُم بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوا ۖ وَّإِن تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ ۖ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ ۚ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ. من المعلوم أن الإيمان في دين المسلمين معرفة وقول وعمل، فاشترط الله تعالى للهداية الإيمان كإيمانهم، أي المعرفة كمعرفتهم والقول كقولهم والعمل كعملهم.
والشاهد على هذا أيضا حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي يخبر فيه بعظم أجر الذي يعمل مثل عمل الصحابة، فدل على أن عملهم صالح للأزمنة من بعدهم قال: فَإِنَّ مِنْ وَرَائِكُمْ أَيَّامًا الصَّبْرُ فِيهِنَّ مِثْلُ الْقَبْضِ عَلَى الْجَمْرِ، لِلْعَامِلِ فِيهِنَّ مِثْلُ أَجْرِ خَمْسِينَ رَجُلًا يَعْمَلُونَ مِثْلَ عَمَلِكُمْ قِيلَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَجْرُ خَمْسِينَ مِنَّا أَوْ مِنْهُمْ ؟ قَالَ : " لَا، بَلْ أَجْرُ خَمْسِينَ مِنْكُمْ ". رواه ابو داود وابن ماجه والترمذي قال هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ.
وفي الحديث: لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ عَلَى الْحَقِّ، لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَذَلِكَ ". رواه مسلم. وأي خذلان أكبر من تبديل الشريعة، وكيف يتميز الحق من الباطل لو أذن لكل قوم بتغيير معاني النصوص والشريعة بما يوافق أهواءهم ودنياهم.
وعن أبي هريرة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كيف أنتم إذا نزل ابن مريم فيكم وإمامكم منكم؟ رواه البخاري ومسلم. وفيه بقاء الإمامة والجماعة والبيعة إلى نزوله عليه السلام وقال نبي الله: والذي نفسي بيده ليوشكن أن ينزل فيكم ابن مريم حكما مقسطا، فيكسر الصليب، ويقتل الخنزير، ويضع الجزية، ويفيض المال حتى لا يقبله أحد. رواه البخاري ومسلم وفيه بيان عدم تغير الشرع وتحريم المحرم وبيان ثبوت فرض الجزية إلى أن يضعها عيسى ابن مريم عليه وعلى نبينا السلام.
ومن الأدلة على فرض وجوب القرآن وحكمه إلى آخر زمن من الدنيا قوله تعالى: وَلا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ. فبين أن الارتياب في القرآن وحكمه كفر إلى قيام الساعة، ولا مبدل لكلمات الله.
ومن الأدلة قوله تعالى: سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انطَلَقْتُمْ إِلَىٰ مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ ۖ يُرِيدُونَ أَن يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ قُل لَّن تَتَّبِعُونَا كَذَٰلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِن قَبْلُ ۖ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا ۚ بَلْ كَانُوا لَا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلًا. فالذين يريدون تبديل كلام الله فهذا من صفات المنافقين وليست من صفات المسلمين والمؤمنين.
وقوله تعالى: مِّنَ ٱلۡمُؤۡمِنِینَ رِجَال صَدَقُوا۟ مَا عَـٰهَدُوا۟ ٱللَّهَ عَلَیۡهِۖ فَمِنۡهُم مَّن قَضَىٰ نَحۡبَهُۥ وَمِنۡهُم مَّن یَنتَظِرُۖ وَمَا بَدَّلُوا۟ تَبۡدِیلا ٢٣
﴿وَما بَدَّلًوا تَبْديلا﴾: وما غيروا العهد الذي عاقدوا ربهم تغييرا، كما غيره المعوّقون القائلون لإخوانهم: هلمّ إلينا، والقائلون: إن بيوتنا عورة.# (قلت: لاحظ كيف يختلق المنافقون الأعذار).
عن قتادة ﴿وَما بَدَّلُوا تَبْديلا﴾ يقول: ما شكُّوا وما تردّدوا في دينهم، ولا استبدلوا به غيره. قال ابن زيد، في قوله: ﴿وَما بَدَّلُوا تَبْديلا﴾ : لم يغيروا دينهم كما غير المنافقون.
ومن الأدلة الناقضة عليهم أيضا، قوله تعالى: وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُول قَدۡ خَلَتۡ مِن قَبۡلِهِ ٱلرُّسُلُۚ أَفَإِی۟ن مَّاتَ أَوۡ قُتِلَ ٱنقَلَبۡتُمۡ عَلَىٰۤ أَعۡقَـٰبِكُمۡۚ وَمَن یَنقَلِبۡ عَلَىٰ عَقِبَیۡهِ فَلَن یَضُرَّ ٱللَّهَ شَیۡـٔاۗ وَسَیَجۡزِی ٱللَّهُ ٱلشَّـٰكِرِینَ. وإنما يكون الانقلاب على العقب بتبديل دين محمد صلى الله عليه وسلم بمبررات واهية وتفسيرات غبية ومستنكرة وتافهة.
وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد. وقال : إن أحسن الحديث كتاب الله وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم و شر الأمور محدثاتها وإن ما توعدون لآت وما انتم بمعجزين. رواه البخاري. وقال صلى الله عليه وسلم: كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار. رواه النسائي وأصحاب السنن بمثله، قال الترمذي حسن صحيح.
وقد عاب الله تعالى على المشركين ابتداعهم من القول ما ليس لهم فيه من الله برهان، وأوضح سبحانه أن لا ينبغي القول بقول أو الحكم بحكم إلا إن كان ذلك القول والحكم جاء به من الله تعالى كتاب منزل، فأبصر أدركك الله برحمته وأنعم عليك بهدايته هاته المواضع التي دللتك عليها وتدبر معها قوله تعالى : أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ . إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا تَخَيَّرُونَ
يقول تعالى ذكره للمشركين به من قريش: ألكم أيها القوم بتسويتكم بين المسلمين والمجرمين في كرامة الله كتاب نزل من عند الله أتاكم به رسول من رسله بأن لكم ما تَخَيَّرون، فأنتم تدرسون فيه ما تقولون..
قال ابن زيد في قوله: ﴿أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ﴾ قال: فيه الذي تقولون تقرءونه: تدرسونه، وقرأ: ﴿أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا فَهُمْ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْهُ﴾ ... إلى آخر الآية.
وقوله: ﴿إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا تَخَيَّرُونَ﴾ يقول جلّ ثناؤه: إن لكم في ذلك الذي تخيرون من الأمور لأنفسكم، وهذا أمر من الله، توبيخ لهؤلاء القوم وتقريع لهم فيما كانوا يقولون من الباطل، ويتمنون من الأمانيّ الكاذبة.#
فما أشبه حال من وصفهم عز وجل بحال هؤلاء المتخيرين في البرلمانات والدساتير ما يحلو لهم من الأحكام وما يملي العدو كإملاء السيد على الخدام. وأي استعمار وأي تحكم وأي سيادة أكبر من فرض التشريعات إن كنتم تعقلون، إنهم يقولون للناس أنتم أحرار فافعلوا ما شئتم في إطار القانون، بينما يكتفون هم بوضع القانون نفسه ولن يسمحوا لأحد بتغييره أو تعديله أو تشريعه بما يخالف مصالحهم وهيمنتهم، فلو أن الأمة اتبعت كتاب ربها الذي حرم التبديل والتغيير لنجت من كيد عدوها، ولكن لكل أجل كتاب. يقول جل ثناؤه: أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ وَلَوْلا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾
وما أشبه اليوم بالبارحة فهؤلاء بنو إسرائيل لما بعد عهدهم بموسى عليه السلام اخترعوا دستورا يحكمون به بدل التوراة، فلا تكن أصلح الله أمرك من المخترعين للكتاب ولا من المخدوعين بالسراب، وتدبر قوله تعالى: أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ ۖ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ
يقول تعالى ذكره: ألم يأن لهم أن لا يكونوا، يعني الذين آمنوا من أمة محمد ﷺ ﴿كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ﴾ يعني من بني إسرائيل، ويعني بالكتاب: الذي أوتوه من قبلهم التوراة والإنجيل.
عن ابن مسعود، إن بني إسرائيل لما طال عليهم الأمد، وقست قلوبهم اخترعوا كتابا من بين أيديهم وأرجلهم، استهوته قلوبهم، واستحلته ألسنتهم، وقالوا: نعرض بني إسرائيل على هذا الكتاب، فمن آمن به تركناه، ومن كفر به قتلناه.
ويعني بقوله: ﴿فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأمَدُ﴾ : ما بينهم وبين موسى ﷺ، وذلك الأمد الزمان. وقوله: فَقَسَتْ قُلُوبُهُم: أي عن الخيرات، واشتدّت على السكون إلى معاصي الله.#
وليت شعري أي المعاصي أعظم من تبديل حكم الله واستحلال المحرمات وتحريم الفرائض والواجبات والمباحات، وكيف لنا أن نتصور معصية إذا كان الأصل الذي فرق بين المعصية والعمل الصالح قد نقضوه وجعلوا الاختيار في أيديهم, فصارت المعصية ما حرموه هم، والعمل الصالح ما فرضوه على الناس من دون استئمار ولا سلطان من ربهم سبحانه عما يقوله أهل الزندقة والتعطيل وتعالى علوا كبيرا.
والأدلة على حرمة التبديل والتعديل والتشريع والحكم بغير ما أنزل الله أكثر من أن أحصيها في هاته الرسالة، وهي أدلة عامة ولا يخصص العام بزمان دون آخر أو مكان دون مكان أو أقوام دون آخرين بغير دليل من كتاب أو سنة.
ولكن القوم ذكروا شبها لا يرجعون فيها إلى كتاب أو سنة، بل مرجعهم فيها إلى فهم مغلوط لسيرة الصحابة والعلماء رحمة الله عليهم. وسنرد على ما حضرنا وبلغنا منها إن شاء الله، وهن شبهتاهم هاتان:
الأولى: أن أمير المؤمنين عمر ابن الخطاب رضي الله عنه عطل حد السرقة،
والثانية: أن الإمام الشافعي رحمة الله عليه غير مذهبه بعد سفره من العراق إلى مصر.
والجواب كالآتي: فيما يخص السرقة ثبت عن عمر ابن الخطاب رضي الله عنه أنه لم يقم الحد على الرقيق الذين سرقوا ناقة المزني، وقد أخرج الخبر بذلك الإمام مالك في الموطأ وغيره.
من الموطأ عن مَالِكٌ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ يَحْيَى بْنِ عَبْدِ الرَّحْمنِ بْنِ حَاطِبٍ أَنَّ رَقِيقاً لِحَاطِبٍ سَرَقُوا نَاقَةً لِرَجُلٍ مِنْ مُزَيْنَةَ فَانْتَحَرُوهَا. فَرُفِعَ ذلِكَ إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فَأَمَرَ عُمَرُ، كَثِيرَ بْنَ الصَّلْتِ أَنْ يَقْطَعَ أَيْدِيَهُمْ. ثُمَّ قَالَ عُمَرُ: أَرَاكَ تُجِيعُهُمْ. ثُمَّ قَالَ عُمَرُ: وَاللهِ، لأُغَرِّمَنَّكَ غُرْماً يَشُقُّ عَلَيْكَ. ثُمَّ قَالَ لِلْمُزَنِيِّ: كَمْ ثَمَنُ نَاقَتِكَ؟ فَقَالَ الْمُزَنِيُّ: كُنْتُ وَاللهِ أَمْنَعُهَا مِنْ أَرْبَعِ مِائَةِ دِرْهَمٍ. فَقَالَ عُمَرُ: أَعْطِهِ ثَمَانِيَ مِائَةِ دِرْهَمٍ
ومن الأم -بَابٌ فِي الْأَقْضِيَةِ- قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ يَحْيَى بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ حَاطِبٍ أَنَّ رَقِيقًا لِحَاطِبٍ سَرَقُوا نَاقَةً لِرَجُلٍ مِنْ مُزَيْنَةَ فَانْتَحَرُوهَا فَرَفَعَ ذَلِكَ إلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فَأَمَرَ كَثِيرَ بْنَ الصَّلْتِ أَنْ يَقْطَعَ أَيْدِيَهُمْ ثُمَّ قَالَ عُمَرُ: إنِّي أَرَاك تُجِيعُهُمْ وَاَللَّهِ لَأُغَرِّمَنَّكَ غُرْمًا يَشُقُّ عَلَيْك ثُمَّ قَالَ لِلْمَزْنِيِّ: كَمْ ثَمَنَ نَاقَتِك قَالَ: أَرْبَعُمِائَةِ دِرْهَمٍ قَالَ عُمَرُ: أَعْطِهِ ثَمَانَمِائَةٍ.
ومن غريب الحديث للإمام أبي عبيد رحمة الله عليه، قال: وهذا كما قضى "عمر" -رحمه الله- على "حاطب". قال: حدَّثنا "عبَّاد بن عبَّاد" عن "محمَّد بن عمرو" عن يحيي بن عبد الرَّحمن بن حاطب" عن "أبيه" أنَّ عبيدًا له سرقوا ناقًة لرجل من "مزينة" فنحروها، فأمر "عمر" بقطعهم. ثمَّ قال: ردُّوهم علىَّ. وقال "لحاطب": "إنِّي أراك تجيعهم" ثم قال "للمزنيِّ": كم كانت قيمة ناقتك؟ قال: طلبت منِّي بأربعمائة درهم. فقال "لحاطب": اذهب فادفع إليه ثمانمائة درهم".
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ , عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ , عَنْ أَبِيهِ , عَنْ يَحْيَى بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ حَاطِبٍ , أَنَّ غِلْمَةً , لِأَبِيهِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ حَاطِبٍ سَرَقُوا بَعِيرًا , فَانْتَحَرُوهُ , فَوُجِدَ عِنْدَهُمْ جِلْدُهُ , وَرَأْسُهُ , فَرُفِعَ أَمْرُهُمْ إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ «فَأَمَرَ بِقَطْعِهِمْ» , فَمَكَثُوا سَاعَةً , وَمَا نُرَى إِلَّا أَنْ قَدْ فَرَغَ مِنْ قَطْعِهِمْ , ثُمَّ قَالَ عُمَرُ: «عَلَيَّ بِهِمْ» , ثُمَّ قَالَ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ: «وَاللَّهُ , إِنِّي لَأَرَاكَ تَسْتَعْمِلُهُمْ , ثُمَّ تُجِيعُهُمْ , وَتُسِيءُ إِلَيْهِمْ , حَتَّى لَوْ وَجَدُوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ , لَحَلَّ لَهُمْ» , ثُمَّ قَالَ لِصَاحِبِ الْبَعِيرِ: «كَمْ كُنْتَ تُعْطَى لِبَعِيرِكَ؟» قَالَ: أَرْبَعَ مِائَةِ دِرْهَمٍ , قَالَ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ: «قُمْ فَاغْرَمْ لَهُمْ ثَمَانِ مِائَةِ دِرْهَمْ» . رواه عبد الرزاق في المصنف
فأين الدليل فيما روي عن عمر ابن الخطاب رضي الله عنه على تعطيل حد من حدود الله ؟ فإن عمر رضي الله عنه يذكر سبب عدم قطعه أيدي هؤلاء الغلمة، وذلك أن سيدهم كان يجيعهم حتى لو وجدوا ما حرم الله عليهم لحل لهم، أي أنهم صاروا في حكم المضطر الذي جاء بيان إفراده بحكم خاص في القرآن دون الحكم العام فأبيح له الأكل المحرم خاصة دون غيره، قال جل ثناؤه: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَن تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ ۚ ذَٰلِكُمْ فِسْقٌ ۗ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ ۚ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا ۚ فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِّإِثْمٍ ۙ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره: فمن أصابه ضر في مخمصة , يعني في مجاعة. عن ابن عباس: فمن اضطر في مخمصة : يعني في مجاعة .#
والآيات في هذا المعنى ما لم أذكر منها أكثر مما ذكرت، لأن الدليل الواحد يكفي في بيان المقصود وتبليغ المراد وإقامة الحجة، ومن أراد الاستزادة فلا يخفى عليه موضع طلب ذلك إن شاء الله.
والمقصود أن أمير المؤمنين وخليفة المسلمين عمر بن الخطاب رضي الله عنه عمل بقوله تعالى: وقد فصل لكم ما حرم عليكم إلا ما اضطررتم إليه. وقوله تعالى: فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه. وإذ لم يكن على المضطر إثم فأن لا يكون عليه حد أولى، إذ الحد يكون من أجل ارتكاب أعظم الذنوب وأما المضطر فلم يرتكب صغيرة ولا كبيرة ولا أصاب حدا. ومن هنا يتضح موافقة عمر رضي الله عنه لكتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يسع إلا تصويب فعله وحكمه في هذه النازلة كما لا يسع إلا تصويب قوله: لا قطع في عام سنة ولا في عذقٍ مُعلق. أي عام المخمصة، عام المجاعة. فقد وافق رضي الله عنه بذلك حكم الله تعالى ولم يحكم بغير ما أنزل الله.
فمن غريب الحديث للإمام أبي عبيد رحمه الله، قال:
وهو معنى حديث "عُمر" [-رضي الله عنه-]: "لا قطع في عام سنة ولا في عذقٍ مُعلق
ومن المصنف لابن ابي شيبة :
حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، قَالَ:، قَالَ يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ، قَالَ: قَالَ عُمَرُ: لَا يُقْطَعُ فِي عِذْقٍ، وَلَا فِي عَامِ سَنَةٍ.
ومن جزء الحسن بن موسى الأشيب
حَدَّثَنَا، أَبَانُ بْنُ يَزِيدَ، عَنْ، يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ، حَسَّانَ بْنِ زَاهِرٍ، عَنِ، ابْنِ حُدَيْرٍ، أَنَّهُ سَمِعَ، عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ، يَقُولُ: " لَا تُقْطَعُ يَدٌ فِي عِذْقٍ وَلَا عَامِ سَنَةٍ
فهذه الآثار والتي قبلها عن الخليفة رضي الله عنه مجتمعة على إناطة تعطيل حكم السرقة بوجود المانع الشرعي من التأثيم والتجريم والعقوبة المترتبة عن ذلك، وهذا المانع مرتبط بالواقع الظرفي في زمن ومكان معينين ويعود الحكم إلى الأصل عند زوال المانع، والذي يتمثل في هاته القضية في وجود المخمصة وبيان النص القرآني أنها من مواطن الضرورة التي استقلت بحكم خاص متى ما وجدت وأينما وجدت.
ويشهد لما تقدم ما روى عبد الرزاق في المصنف بسند صحيح، بَابُ الْقَطْعِ فِي عَامِ سَنَةٍ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ , عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ , قَالَ: جِيءَ إِلَى مَرْوَانَ بِرَجُلٍ سَرَقَ شَاةً , فَإِذَا إِنْسَانٌ مَجْهُودٌ مَضْرُورٌ , فَقَالَ: «مَا أَرَى هَذَا أَخَذَهَا إِلَّا مِنْ ضَرُورَةِ , فَلَمْ يَقْطَعْهُ.
وفيه بيان أن المسلمين وملوكهم بعد الشهيد عمر بن الخطاب والذي توفي سنة ثلاث وعشرين للهجرة كانوا يقطعون يد السارق، ولم يعطلوا الحد. وسبحان الله ما أسدجه من ادعاء وما أوهنها من شبهة، وما أشينها من فضيحة فضح بها قائلوها شح علمهم وقلة فقههم وكثرة عيهم وكان الأحرى بهم ستر عيبهم والكف عن المحاجة بغير علم والمجادلة فيما حرمهم الله فيه الفهم. إذ كما لو أن المجاعة الموطن الوحيد الذي لا يقطع فيه السارق، أفلا قلتم عطل عمر حد السرقة حين أبى قطع يد الخادم، وعطل مروان الحد لأن لم يقطع في الخلسة، وقولوا عطل الشافعي الحد إذ لا يقطع الرجل سرق لزوجته ولا المرأة لزوجها ولا الولد لأبيه ولا الأب لولده، وقولوا عطلنا حد السرقة فيمن سرق أقل من ربع دينار – قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تقطع يد السارق إلا في ربع دينار فصاعدا -.
فما لكم أيها القوم أين ذهبت عقولكم؟ لقد والله أعجزني كثرة سخافة الشبهة عن الرد عليها، وهم يحسبونها لهم؟ ولكن أترك الإمام الشافعي يجيب مكاني فإنه أقوى على ذلك مني، وجزاه الله تعالى عني وعن أهل الإسلام خير الجزاء.
من كتاب الأم للإمام الشافعي المتوفى سنة 204ه، قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَلَا يُقْطَعُ السَّارِقُ وَلَا يُقَامُ حَدٌّ دُونَ الْقَتْلِ عَلَى امْرَأَةٍ حُبْلَى وَلَا مَرِيضٍ دَنِفٍ وَلَا بَيِّنِ الْمَرَضِ وَلَا فِي يَوْمٍ مُفْرِطِ الْبَرْدِ وَلَا الْحَرِّ وَلَا فِي أَسْبَابِ التَّلَفِ وَمِنْ أَسْبَابِ التَّلَفِ الَّتِي يُتْرَكُ إقَامَةُ الْحُدُودِ فِيهَا إلَى الْبُرْءِ أَنْ تُقْطَعَ يَدُ السَّارِقِ فَلَا يَبْرَأُ حَتَّى يَسْرِقَ فَيُؤَخَّرَ حَتَّى تَبْرَأَ يَدُهُ وَمِنْ ذَلِكَ أَنْ يُجْلَدَ الرَّجُلُ فَلَا يَبْرَأَ جَلْدُهُ حَتَّى يُصِيبَ حَدًّا فَيُتْرَكَ حَتَّى يَبْرَأَ جَلْدُهُ، وَكَذَلِكَ كُلُّ قُرْحٍ أَوْ مَرَضٍ أَصَابَهُ .قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو الْحَضْرَمِيَّ جَاءَ بِغُلَامٍ لَهُ إلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَقَالَ اقْطَعْ يَدَ هَذَا فَإِنَّهُ سَرَقَ فَقَالَ لَهُ عُمَرُ " مَاذَا سَرَقَ قَالَ " سَرَقَ مِرْآةً لِامْرَأَتِي ثَمَنُهَا سِتُّونَ دِرْهَمًا فَقَالَ عُمَرُ أَرْسِلْهُ فَلَيْسَ عَلَيْهِ قَطْعٌ، خَادِمُكُمْ سَرَقَ مَتَاعَكُمْ. (قَالَ الشَّافِعِيُّ) : فَبِهَذَا كُلِّهِ نَقُولُ وَالْعَبْدُ إذَا سَرَقَ مِنْ مَتَاعِ سَيِّدِهِ مِمَّا اُؤْتُمِنَ عَلَيْهِ أَوْ لَمْ يُؤْتَمَنْ أَحَقُّ أَنْ لَا يُقْطَعَ مِنْ قِبَلِ أَنَّ مَالَهُ أَخَذَ بَعْضُهُ بَعْضًا (قَالَ الشَّافِعِيُّ) وَقَدْ قَالَ صَاحِبُنَا إذَا سَرَقَ الرَّجُلُ مِنْ امْرَأَتِهِ أَوْ الْمَرْأَةُ مِنْ زَوْجِهَا مِنْ الْبَيْتِ الَّذِي هُمَا فِيهِ لَمْ يُقْطَعْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا وَإِنْ سَرَقَ غُلَامُهُ مِنْ امْرَأَتِهِ أَوْ غُلَامُهَا مِنْهُ وَهُوَ يَخْدُمُهُمَا لَمْ يُقْطَعْ؛ لِأَنَّ هَذِهِ خِيَانَةٌ فَإِذَا سَرَقَ مِنْ امْرَأَتِهِ أَوْ هِيَ مِنْهُ مِنْ بَيْتٍ مُحْرَزٍ فِيهِ لَا يَسْكُنَانِهِ مَعًا أَوْ سَرَقَ عَبْدُهَا مِنْهُ أَوْ عَبْدُهُ مِنْهَا وَلَيْسَ بِاَلَّذِي يَلِي خِدْمَتَهُمَا قُطِعَ أَيْ هَؤُلَاءِ سَرَقَ (قَالَ الشَّافِعِيُّ) : وَهَذَا مَذْهَبٌ وَأَرَاهُ يَقُولُ إنَّ قَوْلَ عُمَرَ خَادِمُكُمْ وَمَتَاعُكُمْ أَيْ الَّذِي يَلِي خِدْمَتَكُمْ وَلَكِنَّ قَوْلَ عُمَرَ خَادِمُكُمْ يَحْتَمِلُ عَبْدُكُمْ فَأَرَى - وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ - عَلَى الِاحْتِيَاطِ أَنْ لَا يُقْطَعَ الرَّجُلُ لِامْرَأَتِهِ وَلَا الْمَرْأَةُ لِزَوْجِهَا وَلَا عَبْدٌ وَاحِدٌ مِنْهُمَا سَرَقَ مِنْ مَتَاعِ الْآخَرِ شَيْئًا لِلْأَثَرِ وَالشُّبْهَةِ فِيهِ (قَالَ) : وَكَذَلِكَ الرَّجُلُ يَسْرِقُ مَتَاعَ أَبِيهِ وَأُمِّهِ وَأَجْدَادِهِ مِنْ قِبَلِهِمَا أَوْ مَتَاعِ وَلَدِهِ أَوْ وَلَدِ وَلَدِهِ لَا يُقْطَعُ وَاحِدٌ مِنْهُمْ وَإِذَا كَانَ فِي بَيْتٍ وَاحِدٍ ذَوُو رَحِمٍ أَوْ غَيْرِ ذَوِي رَحِمٍ فَسَرَقَ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ لَمْ يُقْطَعْ؛ لِأَنَّهَا خِيَانَةٌ وَكَذَلِكَ أُجَرَاؤُهُمْ مَعَهُمْ فِي مَنَازِلِهِمْ وَمَنْ يَخْدُمُهُمْ بِلَا أَجْرٍ؛ لِأَنَّ هَذَا كُلَّهُ مِنْ جِهَةِ الْخِيَانَةِ، وَكَذَلِكَ مَنْ اسْتَعَارَ مَتَاعًا فَجَحَدَهُ أَوْ كَانَتْ عِنْدَهُ وَدِيعَةٌ فَجَحَدَهَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ فِيهَا قَطْعٌ وَإِنَّمَا الْقَطْعُ عَلَى مَنْ أَخْرَجَ مَتَاعًا مِنْ حِرْزٍ بِغَيْرِ شُبْهَةٍ وَهَذَا وَجْهُ قَطْعِ السَّرِقَةِ (قَالَ الشَّافِعِيُّ) : وَالْخِلْسَةُ لَيْسَتْ كَالسَّرِقَةِ فَلَا قَطْعَ فِيهَا؛ لِأَنَّهَا لَمْ تُؤْخَذْ مِنْ حِرْزٍ وَلَيْسَتْ بِقَطْعٍ لِلطَّرِيقِ (قَالَ الشَّافِعِيُّ) أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ أَنَّ مَرْوَانَ بْنَ الْحَكَمِ أُتِيَ بِإِنْسَانٍ قَدْ اخْتَلَسَ مَتَاعًا فَأَرَادَ قَطْعَ يَدِهِ فَأَرْسَلَ إلَى زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ يَسْأَلُهُ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ زَيْدٌ لَيْسَ فِي الْخِلْسَةِ قَطْعٌ. (قَالَ الشَّافِعِيُّ) : وَلَوْ أَسْكَنَ رَجُلٌ رَجُلًا فِي بَيْتٍ أَوْ أَكْرَاهُ إيَّاهُ فَكَانَ يُغْلِقُهُ دُونَهُ ثُمَّ سَرَقَ رَبُّ الْبَيْتِ مِنْهُ قُطِعَ وَهُوَ مِثْلُ الْغَرِيبِ يَسْرِقُ مِنْهُ.
فما أنتم بعد هذا قائلون؟ وبما علينا تردون؟ وبأي شبهة من الحق تستترون؟ وإلى أي مدخل من كتاب الله وسنة نبيه تلتجئون؟
وخلاصة الجواب عن الشبهة الأولى قبل المرور إلى الجواب عن التي تليها:
1- عمر رضي الله عنه لم يعطل حد السرقة فقد أمر بقطعهم قبل أن يتراجع عن القرار،
2- امتناع الخليفة عمر عن قطع أيديهم كان لأجل عده إياهم من المضطرين في مخمصة،
3- حكم عمر ابن الخطاب في هاته النازلة وكذلك منعه من قطع يد السارق عام السنة، أي المجاعة موافق لكتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم،
4- المسلمون لم يفهموا من هذا الحديث تعطيل الحد بل إجماع السلف والمذاهب والفقهاء والأمراء الذين عاشوا بعد عمر ابن الخطاب على وجوب قطع يد السارق،
5- توجد حالات كثيرة غير حال المجاعة لا يجب فيها القطع، ولم يقل أحد من السلف رحمة الله عليهم أن هذا مسوغ لتبديل أحكام الشريعة،
6- ليس حد السرقة وحده الذي يوجد في إقامته على الجاني تفصيل، بل ذلك يشمل كل الحدود في إطار مرجعية الكتاب والسنة والاقتداء بالصحابة والتابعين والاهتداء بسبيل المؤمنين،
7- القول بعدم قطع يد السارق ليس خاصا بعام الرمادة دون غيره، بل هو عام في كل زمان ومكان وجدت فيه دار الإسلام،
8- سن عمر ابن الخطاب للأمير وللناس من بعده سننا خاص حكمها بعام المجاعة غير ترك قطع يد السارق، فصلى بالناس صلاة الاستسقاء وترك أكل اللحم حتى يأكله الناس، وبعث الجمل بما حمل إلى الرعية ليسد فاقتهم ولم يقل أحد بعموم تلك الأحكام والسنن وسريانها بعده دون تقييدها بالزمان والمكان المخصوصين بها دون ما سواهما.
من تاريخ المدينة: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ قَالَ: حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أُسَيْدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حَرَّمَ عَلَى نَفْسِهِ اللَّحْمَ عَامَ الرَّمَادَةِ حَتَّى يَأْكُلَهُ النَّاسُ.
ومن المدونة: قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: وَسَمِعْتُ مَالِكًا وَهُوَ يَذْكُرُ: أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ كَتَبَ إلَى عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ وَهُوَ بِمِصْرَ فِي زَمَانِ الرَّمَادَةِ. قَالَ فَقُلْنَا لِمَالِكٍ: وَمَا زَمَانُ الرَّمَادَةِ أَكَانَتْ سَنَةً أَوْ سَنَتَيْنِ؟ قَالَ: بَلْ سَنَتَيْنِ. قَالَ ابْنُ الْقَاسِم: بَلَغَنِي أَنَّهَا كَانَتْ سِتَّ سِنِينَ. قَالَ: فَكَتَبَ إلَيْهِ وَاغَوْثَاهُ وَاغَوْثَاهُ وَاغَوْثَاهُ، قَالَ فَكَتَبَ إلَيْهِ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ: لَبَّيْكَ لَبَّيْكَ لَبَّيْكَ، قَالَ: فَكَانَ يَبْعَثُ إلَيْهِ بِالْعِيرِ عَلَيْهَا الدَّقِيقُ فِي الْعَبَاءِ، فَكَانَ يُقَسِّمُهَا عُمَرُ فَيَدْفَعُ الْجَمَلَ كَمَا هُوَ إلَى أَهْلِ الْبَيْتِ فَيَقُولُ لَهُمْ: كُلُوا دَقِيقَهُ وَالْتَحِفُوا الْعَبَاءَ وَانْتَحَرُوا الْبَعِيرَ فَائْتَدِمُوا بِشَحْمِهِ وَكُلُوا لَحْمَهُ.
9- أخر عمر رضي الله عنه الزكاة عام الرمادة عن البلاد التي أصابها الجفاف، فأخذها منهم العام الموالي بعد انكشافها،
من غريب الحديث لأبي عبيد: حدثنا عباد بن العوام، عن محمد بن إسحاق، عن يزيد بن أبي حبيب، أو يعقوب بن عتبة، عن يزيد بن هرمز، عن ابن أبي ذبابٍ [أنه] قال: أُخر "عمر" الصدقة عام الرمادة، فلما أحيا الناس بعثني فقال: أعقل عليهم عقالين، فاقسم فيهم عقالاً، وأتني بالآخر. رواه أيضا ابن أبي شيبة وابن زنجويه وإبراهيم الحربي.
قال أبو عبيد: وأما قوله: "عام الرمادة" فيقال: إنما سمي الرمادة؛ لأن الزرع والشجر والنخل وكل شيءٍ من النبات احترق، مما أصابته السنة فشبه سواده بالرماد. ويقال: بل الرمادة: الهلكة. يقال: قد رمد القوم، وارمدوا: إذا هلكوا، وهذا كلام العرب، والأول تفسير الفقهاء، ولكل وجه.
10- بل أوشك أن يدخل على كل أهل بيت من المسلمين إخوانهم من المتضررين بالمجاعة كي يقاسموهم الطعام والشراب.
وذلك ما رواه ابن أبي شيبة في تاريخ المدينة: حَدَّثَنَا الصَّلْتُ بْنُ مَسْعُودٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ ثَابِتٍ أَبُو الْحَسَنِ بْنُ شَبُّوَيْهِ قَالَ: حَدَّثَنِي سُلَيْمَانُ بْنُ صَالِحٍ قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ، عَنْ يُونُسَ بْنِ يَزِيدَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَالِمٍ، أَنَّ ابْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَخْبَرَهُ، أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَامَ عَامَ الرَّمَادَةِ، وَكَانَتْ سَنَةً شَدِيدَةً فَقَالَ بَعْدَمَا أَجْهَدَ فِي إِمْدَادِ الْعَرَبِ بِالْإِبِلِ بِالْقَمْحِ وَالزَّيْتِ مِنَ الْأَرْيَافِ كُلِّهَا: بَلَحَتِ الْأَرْيَافُ مِمَّا جَهَدَهَا، فَقَامَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَالَ : اللَّهُمَّ اجْعَلْ رِزْقَهُمْ فِي رُءُوسِ الْمَطَرِ آيَةً، فَاسْتَجَابَ اللَّهُ لَهُ وَلِلْمُسْلِمِينَ، فَأَغَاثَ عِبَادَهُ فَقَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حِينَ أَنْزَلَ اللَّهُ الْغَيْثَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ، فَوَاللَّهِ لَوْ لَمْ يَفْرِجْهَا اللَّهُ مَا تَرَكْتُ أَهْلَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ لَهُمْ سَعَةٌ إِلَّا أَدْخَلْتُ عَلَيْهِمْ أَعْدَادَهُمْ مِنَ الْفُقَرَاءِ، فَلَمْ يَكُنِ اثْنَانِ لِيَهْلَكَا مِنَ الطَّعَامِ عَلَى مَا يُقِيمُ وَاحِدًا .
11- نسأل هؤلاء القوم: إن كان هذا الزمان أصبح كله في زعمكم زمن مجاعة فساغ عندكم ترك قطع يد السارق؟ فما العذر في ترك إقامة ما سواه من الحدود؟
12- إن كان عمر ترك قطع يد السارق عملا بحكم الله وآياته في المضطر في مخمصة فبأي حكم لله أو آي كتابه أو سنن نبيه تستبيحون تبديل الأحكام وإلغاء النصوص وتقنين الحرام وتجريم الإسلام؟
فهذا ما فتح الله به من الجواب فيما يخص الشبهة الأولى، وأرجو أن لا يكون في طول الجواب سآمة، فإن مبتغاي من ذلك توفير القدر الكافي من المعرفة التي تزيل الشبهة وتنفيها بالدرجة الأولى عند طلبة العلم، وتمكنهم من صياغة ردود مختصرة كلما دعت الحاجة إلى ذلك، إن شاء الله. مع ما في ذكر الأخبار الواردة في ذلك من إزالة للوحشة وبيان لتفاصيل الواقعة.
وقد تبين بفضل الله زيف ادعاء المعطلين للحدود بأنهم في ذلك مقتدون بأمير المؤمنين عمر ابن الخطاب رضي الله عنه، والحقيقة أنهم والله الذي لا إله إلا هو ما يقتدون إلا بسنن اليهود والنصارى، والحديث بصحة ما أدعي من ذلك مخرج عند الإمام مسلم وبعض أصحاب السنن وأحمد وعند الطبري في التفسير. عن البراء بن عازب قال مر على النبي صلى الله عليه وسلم بيهودي محمما مجلودا فدعاهم صلى الله عليه وسلم فقال هكذا تجدون حد الزاني في كتابكم قالوا نعم فدعا رجلا من علمائهم فقال أنشدك بالله الذي أنزل التوراة على موسى أهكذا تجدون حد الزاني في كتابكم قال لا ولولا أنك نشدتني بهذا لم أخبرك نجده الرجم ولكنه كثر في أشرافنا فكنا إذا أخذنا الشريف تركناه وإذا أخذنا الضعيف أقمنا عليه الحد قلنا تعالوا فلنجتمع على شيء نقيمه على الشريف والوضيع فجعلنا التحميم والجلد مكان الرجم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم اللهم إني أول من أحيا أمرك إذ أماتوه فأمر به فرجم فأنزل الله عز وجل يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر إلى قوله إن أوتيتم هذا فخذوه يقول ائتوا محمدا صلى الله عليه وسلم فإن أمركم بالتحميم والجلد فخذوه وإن أفتاكم بالرجم فاحذروا فأنزل الله تعالى ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون في الكفار كلها.
فانظر أيها المنصف إلى مقارنة حال هؤلاء اليهود الذين حكموا في الزاني بغير الرجم وعطلوا حدا واحدا من الحدود ما كان حكم الله فيهم، وأوجد لي يغفر الله لك عذرا يعذر به من ينافح ويشرعن تعطيل الحدود جميعا وتدبر كيف لم تنفع أولئك المبدلين شريعة التوراة مبرراتهم ولم يشفع لهم عند الله أشرافهم وكبراءهم.
والآن فيما يخص الشبهة الثانية: زعموا أن التغيير الحاصل في مذهب الإمام الشافعي رحمة الله عليه بعد سفره من العراق إلى مصر، أن ذلك دليل على جواز تبديل الأحكام عند دوران الزمان واختلاف الأمكنة والأقوام.
والجواب عن ذلك بتوفيق من الله وحده، من عدة أوجه كالآتي:
1. الإمام الشافعي بريء من هاته التهمة التي يلصقها به الحداثيون،
2. وجود قولين في المسألة أو أكثر ليس بدعا من القول عند السلف رحمة الله عليهم،
3. الصحابة والسلف رضوان الله عليهم يدورون مع الدليل حيث دار وإذا تبين لهم صحة الحديث أو الترجيح قالوا به وتركوا ما سواه،
4. الإمام الشافعي رحمه الله وغيره من العلماء لا أحد منهم يدعي بلوغه معرفة جميع السنن فلا يخفى عليه منها شيء،
5. الصحابة رضوان الله عليهم تفرقوا في البلدان بعد ممات النبي صلى الله عليه وسلم، وهم متفاوتون في العلم والفقه والحديث، فنشر كل واحد منهم علمه وحديثه وفقهه بين الناس في البلد الذي أقام به، ولذلك يسمى الحديث حجازيا أو عراقيا أو شاميا، وكذلك اختلفت مذاهب أهل العراق والمدينة والشام ومصر في الفقه،
6. العلماء رحمة الله عليهم لم يكونوا يتواصلون فيما بينهم بالأجهزة الإلكترونية كما هو حاصل اليوم، بل كانوا يسافرون في طلب الحديث والفقه بين البلدان ويحصل عندهم من العلم والفقه ما لم يكن حاصلا قبل ذلك،
7. لا عصمة لأحد بعد رسول الله صلى الله عليهم وسلم، ولا عيب في رجوع الإمام الشافعي رحمه الله عن بعض أقواله بعدما تبين له الصواب وترجح عنده القياس بخلاف ما بلغه اجتهاده قبل إحكام قوله، ولا أشك أنه لو كتب له عمر بعد الأربع وخمسين عاما التي عاشها، لراجع كتبه وأقواله ثم زادها تحسينا وإحكاما ودقة،
8. أصحاب الإمام الشافعي رحمة الله عليه كانوا يخالفونه في بعض أقواله الجديدة مع التزامهم بمذهبه ولا يعدون ذلك عيبا أو نقيصة أو خروجا عن مذهبه،
9. المجتهد المخطئ في اجتهاده له أجران فأقوال الإمام الشافعي رحمه الله القديمة والجديدة منها ما يكون له بها أجران إن هو أصاب ومنها ما يكون له بها أجر إن هو أخطأ،
10. كتب الإمام الشافعي أصول الفقه فذكر العام والخاص والناسخ والمنسوخ وغيرها من الأصول ولم يذكر تغير الزمان أو المكان أو البيئة من بين أصول الفقه،
11. بين الشافعي رحمة الله تعالى عليه أن مصادر التشريع عنده وعند المسلمين الكتاب والسنة والإجماع والقياس، ولم يذكر البيئة كمصدر من مصادر التشريع، ولا نص على ذلك رحمه الله في موضع من مواضع كتبه واستدلالاته على كثرتها.
12. لا نشك أن الأحكام الشرعية تعتبر أحوال الناس من ضعف وقوة وعجر واستطاعة واضطرار وإكراه وحيض ونفاس وزواج وطلاق وإيمان وكفر وغير ذلك من الأحوال في النطق بالحكم الشرعي في حق الشخص أو الطائفة، ولكن هذا يكون انطلاقا من النصوص الشرعية وليس من خارجها،
13. القائلون بتغير الأحكام بتغير الزمان نسألهم ما هو الضابط لديكم في تغير هذه الأحكام، فإن زعموا أنه المصلحة فإن الضابط عندنا للمصلحة هو ضابط الشرع فما جاء الشرع بفرضه وتشريعه والندب إليه ففيه المصلحة، وما حرمه الله فيه المفسدة، وما غلظ في تحريمه وعقوبته كان أشد مفسدة، فما هو ضابط تحديد المصلحة عندكم أيها القوم علما أن الشريعة تقدم مصلحة الدين والدار الآخرة على مصلحة الدنيا ومفاتنها،
14. وإن زعموا أن الضابط لذلك هو العقل فإن العقول مختلفة ومآل ذلك إلى الفوضى الدينية ولا أحسب عاقلا أو صاحب دين يقول بهذا القول إلا صاحب الدنيا والفلسفة والنظرة الغربية للأمور،
15. كما ذكرت فإنه لم يثبت عن الشافعي أو أحد من السلف، صحابيا كان أو تابعيا أو فقيها أو محدثا أنه أباح تعطيل النصوص واستبدالها بتشريع العقول في زمان أو مكان، ومن ادعى عكس ذلك فلينقض ما قلناه، وهيهات هيهات،
16. أقوال العلماء يستدل لها ولا يستدل بها، فعلى فرض أنه ثبت عن الشافعي أنه أجاز أمرا فإن قوله لا يكون دليلا، وإنما الدليل الكتاب والسنة والإجماع، وحاشا الإمام الشافعي أن يوافق أهواء الحداثيين،
17. الاختلاف على مراتب، اختلاف وخطأ في الاجتهاد، وذلك ما يسمى الاختلاف المعتبر، واختلاف وخطأ محرم كخطأ أهل البغي وأهل البدع التي دون الكفر، واختلاف هو كفر كالخطأ في التوحيد قبل الرسالة وجحد المعلوم من الدين بالضرورة بعدها،
18. إنما يكون اختلاف العلماء فيما يحتمل التأويل ويدرك بالقياس وذلك فيما ليس فيه نص صريح من كتاب أو سنة ولا إجماع فيذهب المتأول أو القايس إلى معنى يحتمله الخبر أو القياس فلا يأثم العالم ولا مقلد العالم في هذا الموضع، ولا ينبني عليه ولاء أو براء أو عداوة في الدين أو إثم أو عقوبة،
19. الاختلاف المحرم هو الاختلاف فيما أقام الله به الحجة في كتابه أو على لسان نبيه منصوصا بينا فلا يحل الاختلاف فيه لمن علمه.
20. لا يصح مقارنة الإختلاف بين العلماء في الأحكام والاجتهادات الفقهية بالإختلاف الموجود بين المسلمين والكفار، أو بين أهل السنة والجماعة مع أهل البدع، لأن الأول يكون فيما تجيزه النصوص ومعانيها، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب، فله أجران، وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ، فله أجر، وأما الاختلاف والفرقة فقد ذمهما الله تعالى فقال: ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءتهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم. وقال: ولو شاء الله ما اقتتل الذين من بعدهم من بعد ما جاءتهم البينات ولكن اختلفوا فمنهم من آمن ومنهم من كفر. فإن من جحد التنزيل فرد النص القاطع للعذر ثبوتا ودلالة فهو كافر. ودل الكتاب على خلاف ثالث ليس بمأجور ولا مكفر المخالف فيه وذلك قوله تعالى: وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين . إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم واتقوا الله لعلكم ترحمون. فأخبر تعالى عن الطائفتين معا أنهم من المسلمين، وأخبر عن إحداهما أنها باغية وأمر بقتالها، ومن المعلوم أن ربنا حرم البغي - قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق -- وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي - فتبين صواب ما أوضحته من أن الاختلاف على مراتب وليس كل اختلاف يكون محرما ولا كل اختلاف يكون مباحا ولا كل اختلاف يكون كفرا.
21. بخلاف أهل الإسلام جميعهم، عالمهم وعاميهم، مجتهدهم ومقلدهم، فإن أصحاب دعاوى التجديد والحداثة والتنوير في هذا الزمان يخالفون الحجج القاطعة للعذر ويكابرون الضرورات العقلية والخبرية معا ويسعون لإلغاء الكتاب والسنة والاقتداء بسلف الأمة، وإباحة ما أجمع الصحابة والتابعون والثلاثة قرون على تحريمه وتحريم ما نقل إلينا جوازه بالنقل المستفيض الذي يستحيل فيه الخطأ والسهو والنسيان والكذب.
وبعد، فقد تبين بفضل الله وحده، بما لا أحسبه يدع لقارئ أو قارئة مجالا للشك أو التساؤل، فساد الشبه التي يروجها من لا علم له بدين الله تعالى والعلم الشرعي وأصوله وقواعده، وذلك أن رجوع الإمام الشافعي عن أحد قوليه إلى الآخر منهما عن تبديل الشريعة وسن القوانين وتغيير الحلال والحرام بمعزل. وأن الخليفة عمر رضي الله عنه لم يعطل حد السرقة ولم يحكم بغير ما أنزل الله تعالى وإنما حكم الحكم الموافق للتنزيل في المضطر عند المجاعة، وهذا ما لم يتفطن له من تشبت بهاته الشبه التي لا قيمة لها في الأصل ومع ذلك فقد بنوا عليها بنيانا عظيما وهي لا تحتمله، فبانهيارها يسقط البنيان عن آخره إن شاء الله ويذهب كل ما أمضوا من الأوقات وما عملوا من الأعمال نصرة للباطل سدى لأن ذلك لم يؤسس على أساس التقوى.
وخلاصة المقال أن التنزيل والتأويل والسنة دلوا بما لا يدع مجالا للارتياب أن شريعة محمد صلى الله عليه وسلم هي الشريعة الخاتمة التي لا شرع مقبول بعدها، والتي لا يجوز استبدالها بحجج واهية، وأن الذين يزعمون خلاف ذلك لا تربطهم صلة بمحمد صلى الله عليه وسلم وبدينه إلا صلة الانتساب المزيف والادعاء العاري عن الدليل والبعيد عن الصواب والمحروم من التوفيق.
والعبرة عدم الاغترار بالدعاوى والشبه المنمقة والباطل المزخرف الذي يستخفون به الناس والكذب المدعم بالأورو والدولار، بل الواجب التمسك بالسلف رحمة الله عليهم وما كانوا عليه فإنهم يوافقون كتاب الله تعالى وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم وهم أعلم بدين الله تعالى فعنهم يؤخذ العلم والفقه والتأويل والحديث لا عن الخلف وإن حلف.
يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقا من الذين أوتوا الكتاب يردوكم بعد إيمانكم كافرين
ولن ترضى عنك اليهود و لا النصارى حتى تتبع ملتهم قل إن هدى الله هو الهدى ولئن اتبعت أهواءهم بعد الذي جاءك من العلم ما لك من الله من ولي ولا نصير
قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم
لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا
تم الجواب بتوفيق من الله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.


